ثقافة و فن

مدن على مفترق الطرق: بين قابلية التحضر ورفض التنمية

في خريطة المغرب التنموية، يمكن التمييز بوضوح بين فئتين من المدن تختلفان في مستوى الاستعداد والقبول لمفاهيم التنمية ومقومات الحضارة. فبين مدن تتنفس التغيير، وتفتح أبوابها لرياح الإصلاح، وتستعد لركوب قطار التحديث، وأخرى تتقوقع في تقاليدها، وترفض الانخراط في دينامية التحول، تبرز إشكالية القابلية الحضارية كعامل محدد في نجاح السياسات التنموية.
الفئة الأولى: مدن قابلة للتحضر والانخراط في التنمية
تتميز هذه المدن بانفتاحها الثقافي، وحيوية مجتمعها المدني، ووجود نخب محلية تتبنى قيم التغيير، وتسعى إلى التفاعل الإيجابي مع المبادرات التنموية. وساكنتها تتملك وعياً جماعياً بأهمية التحول، وتتفاعل مع المشاريع الاقتصادية والاجتماعية بروح تشاركية. فالبنية النفسية والثقافية للمواطنين تشكل أرضية خصبة لنجاح أي مشروع إصلاحي، مما يسهّل على صناع القرار والمؤسسات العمومية تنفيذ السياسات العمومية وتحقيق الأهداف المنشودة.
في هذه المدن، تتحول التنمية من شعارات إلى ممارسات ملموسة: من تحسين للبنية التحتية إلى تحفيز للاستثمار، ومن ترسيخ لقيم المواطنة إلى بناء اقتصاد محلي دينامي. فالحضارة هنا ليست سلعة مستوردة، بل خيار جماعي يُبنى بالتدريج على أسس من الإرادة والوعي.
الفئة الثانية: مدن ترفض الانخراط في مسار الحضارة
على النقيض، تعاني فئة أخرى من المدن من مقاومة شبه ممنهجة لأي تغيير. يهيمن على ساكنتها نوع من الجمود الثقافي، ورفض لكل ما هو جديد، وتشبث مفرط بأنماط تقليدية في التفكير والسلوك. هنا، تتحول كل محاولة للإصلاح إلى صدام مع ثقافة راسخة، تُقصي الحداثة، وتُجذّر التخلف بوصفه نمط حياة.
وتواجه المؤسسات العمومية والمبادرات المدنية في هذه المدن تحديات كبرى، حيث يغيب الوعي الجماعي، وتنهار الثقة بين المواطن والإدارة، وتتنامى مظاهر الانغلاق الاجتماعي والثقافي. وهي بذلك تختار، عن وعي أو عن جهل، البقاء على هامش الركب الحضاري، متجاهلةً أن العالم من حولها يسير بسرعة نحو المستقبل.
بين المدينة الحية والمدينة الجامدة
ليست المشكلة في توفر المشاريع التنموية أو غيابها، بل في “قابلية” السكان أنفسهم لاحتضان التنمية والانخراط في بناء مستقبلهم. فكما قال مالك بن نبي: “قابلية الاستعمار” تسبق الاستعمار نفسه، فإن “قابلية التحضر” اليوم تسبق التنمية وتحدد مآلها. فمدينة بلا وعي مجتمعي، مهما أُغدق عليها من مشاريع، تظل قاصرة عن إدراك غاياتها.
خاتمة: نحو نهضة متوازنة
إن تحقيق تنمية عادلة وشاملة في المغرب يقتضي الاعتراف بالفوارق الثقافية والاجتماعية بين المدن، والعمل على تأهيل تلك التي ما زالت تراوح مكانها، من خلال الاستثمار في الإنسان أولاً، وبناء وعي حضاري قادر على تجاوز رواسب الماضي. فالمستقبل لا ينتظر، ومن يتأخر عن قطار التنمية، لن يجد له مقعداً في عالم يتغير باستمرار.
بقلم: هشام فرجي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى