نداء من أجل إنقاد أضرحة دمنات التاريخية …نداء من أجل الثرات الثقافي للمدينة .بقلم : حسن تزوضى

في مدينة دمنات، المدينة التي تضرب جذورها في عمق تاريخ المغرب ، تتناثر الأضرحة القديمة كعلامات شاهدة على حضور روحي وثقافي كثيف، هذه الأضرحة التي تعتبر اليوم جزءا من الثرات الثقافي والديني للمدينة، هي ليست مجرد بنايات وآثار عادية ، بل هي محطات للذاكرة، تشكلت حولها علاقات اجتماعية وروحية، ونُسجت داخلها طقوس واحتفالات واشكال للحياة وأنماط تفكير ، من سيدي ناصر أوعلي بالقصبة، إلى سيدي حداني بالسوق، إلى سيدي أمحمد أوسعيد وسيدي عبد الحق في حي أرحبي، إلى سيدي الحساين في أكداين، وسيدي واكريان، وسيدي إبراهيم أومري أو أمسري، ولالة ميمونة في آغير، وسيدي احماد أمونديل، وسيدي بلبخت بآيت أمغار، وسيدي عبد المومن بنفس المنطقة، وسيدي أبوم موسى ببوغرارت، وسيدي الغازي بتاعقيلت، وسيدي يحيى بتيفغمات، وسيدي الصغير بالمدين، وسيدي داوود بتيزغت، وسيدي ازباير في بني جنون (آيت أكنون)، وسيدي إبراهيم أماولي وسيدي أحمد أمنديل بفشتالة، وسيدي ناصر أومهاصر بآمي نيفري، وسيدي علي أوعيسى تحت زاوية سيدي عزيزي الناصري بتغرمين، وأخيرًا سيدي الحاج إبراهيم بآيت حليلي على حاشية واد آيت معياض.
هذه الأضرحة تشكل خريطة روحية كاملة، تحدد جغرافية غير مرئية للمدينة، وتحمل في باطنها روابط خفية بين الإنسان والمقدس، بين الفرد والجماعة، بين الأرض والسماء. لكنها اليوم تتآكل، ليس فقط تحت تأثير الزمن، بل بفعل الإهمال الجماعي الذي جعل من الكثير منها مجرد أطلال. بعضها اندثر نهائيًا، والبعض الآخر مهدد بالسقوط أو التلاشي، في غياب تام لأي سياسة ترميم أو توثيق أو حماية. لا وجود للوحات تعريفية، ولا خرائط سياحية ترشد الزائر إلى هذه المواقع، ولا حملات مدنية أو رسمية تذكر به، إنها تُباد في صمت.
ليس حال الأضرحة استثناءً، فأسوار دمنات التاريخية نفسها، تلك التي كانت تحيط بالمدينة وتحميها، أصبحت شاهدة على الإهمال بدل أن تكون شاهدة على المجد. هذه الأسوار، التي كانت تحدد المجال السياسي والاجتماعي للمدينة القديمة، تعرضت هي الأخرى للتآكل والطمس، إما بسبب الزحف العمراني غير المنظم، أو بفعل غياب الوعي بقيمتها التاريخية، هي ليست جدرانًا فقط، بل نصوصًا تروي تاريخا وحضارة ،تروي كيف كانت المدينة تنظم نفسها وتحمي خصوصيتها. وتزداد الصورة قتامة حين نتحدث عن القصبات العتيقة المنتشرة في دمنات ومحيطها القريب كالقصبات المنتشرة بمنطقة كرول والتي تعرف الاهمال وتتلاشى عاما بعد عام ،وكذلك القصبات والمخازن الجماعية المنتشرة في عمق الاطلس المحيط بدمنات .
إن ما يحدث اليوم في دمنات -من اندثار لهذه المعالم، ومن غياب شبه كلي لأبسط أدوات الحفظ كالترميم والتوثيق والصيانة ، بل حتى اللوحات التعريفية-ليس إلا تعبيرًا عن قطيعة خطيرة مع الذاكرة الثقافية، وعن غياب رؤية استراتيجية شاملة للتعامل مع التراث. هذا الغياب لا يُترجم فقط في الإهمال المادي، بل يظهر أيضًا في الانفصال الذهني والرمزي بين المجتمع وتراثه، حيث لم يعد يُنظر إلى هذه الأضرحة كعنصر حيوي في البنية الثقافية للمدينة، بل كأشياء ماضية لا تنتمي لرهانات الحاضر.
من المؤسف أن يتحول الفاعل السياسي إلى مجرد متفرج على هذا الانحدار. إن تجاهل المؤسسات المنتخبة والسلطات المحلية والجهوية لقضية التراث هو تخَلٍّ عن أحد أبرز مقومات التنمية الثقافية والروحية. فالمعالم التاريخية ليست ترفًا حضاريًا يمكن الاستغناء عنه، بل هي أساس لكل مشروع تنموي حقيقي، لأن التنمية المستدامة ، لا تقتصر على الاقتصاد ، بل تشمل أيضًا إعادة إحياء الذاكرة الجماعية وتثمين الهوية المحلية، فغياب أي رؤية لحماية هذا التراث يطرح سؤالًا حادًا حول أولويات السياسات الثقافية، ومدى وعيها بدورها في الحفاظ على مقومات الذات الجماعية.
والأمر لا يقتصر على المؤسسات الرسمية فقط، فالمجتمع المدني الذي كان من المفترض أن يكون الحارس الأمين لذاكرة المدينة، يبدو هو الآخر منشغلًا بمقاربات احتفالية وموسمية، لا ترقى إلى مستوى الفعل الترافعي المؤسس، فالجمعيات الثقافية والبيئية- على أهميتها- تنخرط في كثير من الأحيان في أنشطة استهلاكية لا تنتج أثرًا بنيويًا في حماية التراث، بل قد تساهم – ولو من دون وعي – في تكريس الفهم الفلكلوري للثقافة، وهو فهم يعيد إنتاج الماضي كعرض سطحي يُستهلك، بدل أن يُستعاد كفعل تأسيسي يُبنى عليه.
إن ظاهرة المهرجانات الثقافية، بما تحمله من إمكانات وموارد، تكشف عن هذا الخلل العميق. ففي الوقت الذي تُخصص فيه مبالغ مالية هامة لتنظيم عروض غنائية ومواكب احتفالية، تظل الأضرحة والأسوار والمباني التاريخية تتهاوى بلا ترميم، بلا حماية، بلا توثيق. أليس من التناقض أن تُحتفى دمنات بثقافتها وهي تفقد – يومًا بعد آخر – مقومات تلك الثقافة؟ أليس من الأجدر أن تُحول ميزانيات بعض هذه المهرجانات إلى مشاريع لحماية هذه المعالم، إلى مبادرات للبحث والتوثيق، إلى شراكات مع الجامعات والمراكز المختصة لإعادة إدماج التراث في صلب الوعي المجتمعي؟
إن الحديث عن التراث لا يمكن أن يقتصر على بعده المادي فقط. فإلى جانب الأضرحة والأسوار، هناك تراث لامادي غني بالقصص والأساطير والطقوس المرتبطة بهذه الفضاءات.
إن اندثار الضريح لا يعني فقط سقوط بناء، بل اختفاء شبكة كاملة من المعاني والتمثلات، من الطقوس والعلاقات الاجتماعية، التي كانت تتشكل حوله. الولي، في الثقافة المحلية، ليس فقط شخصية روحية، بل هو نقطة التقاء الذاكرة الدينية بالاجتماعية، والأسطوري بالتاريخي. وبالتالي فإن كل ضريح يهمل، هو قطعة من النسيج الثقافي الذي يتمزق في صمت.
من هذا المنطلق، يصبح حفظ التراث مسؤولية متعددة الأبعاد، إنه فعل سياسي بامتياز، لأنه يطرح سؤال السلطة على الذاكرة، وهو أيضًا فعل أخلاقي، لأنه يستدعي الوفاء لأرواح الذين صنعوا هذه المدينة، وجعلوا منها أكثر من مجرد عمران. وهو كذلك فعل ثقافي، لأنه يمكّننا من إعادة وصل ما انقطع، ومن تأكيد استمرارية الذات عبر الأجيال. في عالم يستهلك كل شيء بسرعة، يصبح الدفاع عن التراث شكلًا من أشكال المقاومة، مقاومة ضد النسيان، ضد الابتذال، ضد التشييء الذي يحوّل الثقافة إلى مجرد فرجة.
التراث في نهاية الأمر، ليس ما نحتفظ به في المتاحف، بل هو ما نعيش به ونعيش فيه. إن دمنات بكل ما تحمله من عمق روحي وثقافي، لا يمكن أن تستمر كمدينة حية إذا فقدت روحها، فالأضرحة، كما الأسوار والمواقع التاريخية، ليست مجرد ذكريات جميلة، بل أسس رمزية لمجتمع يتوق إلى المعنى، إلى الجذور، إلى الاستمرارية، فالحفاظ عليها ليس ترفًا، بل شرط للوجود.
إنه نداء إلى كل من يهمه أمر هذه المدينة: إلى الفاعلين السياسيين كي يعيدوا النظر في أولوياتهم، إلى الفاعلين المدنيين كي ينتقلوا من الحضور الرمزي إلى الفعل الحقيقي، إلى المثقفين كي يعيدوا الاعتبار للمعنى العميق للتراث، وإلى الساكنة ذاتها، لأن الدفاع عن الذاكرة لا يكون إلا بتملكها والاعتزاز بها. فما لا نحفظه اليوم، قد لا نملكه غدًا. وما لا نحميه لا يحمي هويتنا، وما لا نكترث له، سيكترث التاريخ لغيابه عنا.
حسن تزوضى ( باحث في الثرات المادي واللامادي )