صدرت رواية جديدة موسم 2025 موسومة بعنوان «عين المجنون» للشاعر والروائي مصطفى ملح، عن دار درة الشرق للنشر والتوزيع التي تشرف عليها الروائية والقاصة المصرية إيمان عنان.
تتكون الرواية من سبعة فصول تشغل 200 صفحة من الحجم المتوسط، وقد صُدرت بإهداء: «إلى كل مجنون.. اكتشف بأن الآخرين هم المجانين.. إلى كل من يرى بأن الجنون ليس منقصة.. وإنما هو مجرد اختلاف».
ونقرأ في ظهر الغلاف: فجأة، «لمح انعكاس وجهه على زجاج نافذة أحد المحلات، لكنه لم يرَ يونس الذي يعرفه. رأى رجلًا مختلفًا، رجلًا حرًا، بلا قيود، بلا شكوك، بلا حاجة لإثبات شيء لأحد. اقترب من الزجاج، تأمل عينيه، ثم تمتم بصوت هادئ:
«الآن أفهم… لم أكن أنا المجنون، بل العالم بأسره».
أطلق ضحكة قصيرة، ضحكة نابعة من أعماقه، ليست سخرية، بل راحة… كأنه استيقظ أخيرًا من حلم طويل. ثم أدار ظهره للمدينة ومضى، لا وجهة له، لا خطة، فقط هو واللحظة التي يعيشها، بدون تعقيدات، ولا محاولة للبحث عن إجابات هو في غنى عنها.
وقال مرة أخرى بيقين تام:
«أنا لم أكن المجنون… بل كنت الوحيد العاقل بينهم».
تتحدث رواية «عين المجنون» عن رجل في منتصف الأربعينيات، لم يكن يشبه الآخرين أبدًا. منذ طفولته، كان يسأل أسئلة لا يملك أحد إجابة عليها، وينظر إلى العالم من زاوية مغايرة. كان دائمًا يرى خللًا في سلوك البشر، في أنظمتهم، في طريقة تفكيرهم التي تبدو مبرمجة مسبقًا. لم يكن بوسعه تقبل هذه المسلّمات، فكان يسير ضد التيار، رافضًا الامتثال، حتى بدأ المجتمع يرى فيه شخصًا غير طبيعي، غريب الأطوار، أو مجنونًا.
في البداية، لم يكن مقتنعًا بأنه مختلف عن الآخرين، لكنه كان يشعر أن هناك شيئًا ما خطأ في العالم، في الطريقة التي يتصرف بها الناس وكأنهم يكررون نفس السيناريوهات بلا وعي. حاول أن يناقشهم، أن يكشف لهم زيف الواقع الذي يعيشون فيه، لكنهم كانوا يسخرون منه، أو ينظرون إليه باشمئزاز، أو يتجنبونه تمامًا. ومع مرور الوقت، وجد نفسه منبوذًا، منعزلًا، حتى انتهى به الأمر في مستشفى للأمراض العقلية، حيث قيل له إنه مصاب باضطرابات عقلية ويحتاج إلى العلاج.
داخل المستشفى، كان يونس يراقب المرضى والأطباء والممرضين. كان يرى أن المرضى ليسوا مجانين كما يُقال، بل أشخاص خرجوا عن النمط المعتاد، بينما الأطباء والممرضون لم يكونوا يختلفون كثيرًا عن باقي الناس في الخارج: يكررون ما تعلموه دون تفكير، يؤمنون بأن كل من لا يسير وفق القواعد المتفق عليها هو شخص مريض يجب علاجه. لكنه لم يكن مقتنعًا بذلك. بل بدأ يرى نفسه أكثر وضوحًا من أي وقت مضى. لم يكن هو المريض، بل كانوا جميعًا يعيشون في وهم جماعي كبير.
عندما خرج من المستشفى، حاول أن يعود إلى حياته الطبيعية، لكنه وجد أن كل شيء قد تغيّر. العائلة التي كانت تتعامل معه بحذر صارت تخشاه، الأصدقاء القدامى لم يعودوا يقتربون منه، وحتى في العمل لم يعد يُنظر إليه كموظف عادي، بل كشخص غريب قد ينفجر في أي لحظة. بدأ يلاحظ أن الناس لم يكونوا يتعاملون معه كإنسان، بل كحالة مرضية يجب تفاديها. لكن الأغرب من ذلك، أنه كان يرى أنهم جميعًا، دون استثناء، يعيشون بطريقة آلية، كما لو كانوا أدوات تؤدي أدوارها دون تفكير.
في النهاية، وصل يونس إلى استنتاجه النهائي: المشكلة لم تكن فيه، بل في العالم كله. الناس ليسوا أحرارًا كما يعتقدون، بل هم سجناء في سجون غير مرئية، سجناء في عقولهم، في مخاوفهم، في عاداتهم. أما هو، فقد أصبح أخيرًا خارج هذه المنظومة. لم يعد يهتم بما يعتقده الآخرون، لم يعد يحاول إقناعهم بشيء، بل اكتفى بالمراقبة بصمت.
في المشهد الأخير، يقف يونس وسط المدينة، ينظر إلى المارّة بابتسامة خفيفة. لم يعد يشعر بالغضب، أو الحزن، أو حتى الحيرة. لقد فهم كل شيء. يهمس لنفسه بكلمات خافتة، كما لو كان يخاطب العالم بأسره:
«أنا لم أكن المجنون… بل كنت الوحيد العاقل بينهم.».