منير الطاهري
في عالم تتسارع فيه التحولات البنيوية وتختلط فيه أجندات السلطة مع تحول جارف في نظام القيم، تبدو الدولة الحديثة في مفترق طرق وجودي. بعد أن تآكلت مركزيتها، وتعرضت رموزها لما يشبه التفكك التدريجي، وبدأت تتصاعد من تحتها أشكال جديدة من التنظيم الاجتماعي والسياسي، يراد لها أن تكون أكثر مرونة وأكثر تقنية، ولنقل ربما أقل بيروقراطية.
ليست نهاية الدولة إعلانا عن الفوضى، بل ربما تجسير نحو مرحلة أكثر غموضا أو إعادة تشكيل للدور، للوظيفة، وللتخيل الجماعي في هذه المرحلة الانتقالية.
لقد كشف مونتيسكيو في زمن سابق كيف أن الدولة تستمد شرعيتها من حسن تدبير العلاقة بين السلط، لكن يبدو أن المرحلة المقبلة تدفعنا نحو نماذج جديدة من “الدولة المؤسسية المتعددة الأوجه والسلط”، لا تفقد فيها السلطة مركزها فقط، بل تتوزع على أطراف الشبكة التقنية، وتقترب أكثر من الأنشطة الحياتية اليومية، في نوع من “اللامركزية الحية” التي تسعى إلى ضبط الحياة دون خنقها، أو بقاموس ليبرالي تقنينها دون احتوائها.
هذه الدينامية المزدوجة أمام ضبابية وارتباك الحل السياسي، وأمام تجذر التقدم التكنولوجي مجتمعيا وسلوكيا، تطرح سؤالا جوهريا حول مفهوم العيش المشترك في مرحلة ما بعد السيادة التقليدية للدولة. فهل نحن على أعتاب تفكيك الدولة لصالح نماذج تقنية للحكم والرقابة؟ وهل سيستبدل القاضي والبرلمان والوزير بخوارزميات تعد بالحياد والفعالية، رغم افتقارها إلى الحميمية والضمير والأخلاق؟
يبدو أن التكنولوجيا لا تقدم فقط أدوات جديدة للحكم، بل تعيد تأهيلنا نحو رؤية جديدة للسلطة. فالدولة التقنية لا تتحرك بصخب الشرطة أو شعارات الوطنية، بل تتسلل عبر التطبيقات، البيانات، وتكنولوجيات المراقبة الدقيقة. نحن أمام “روبوتيزم سياسي” ناشئ، حيث يعاد تصميم العلاقة بين المواطن والسلطة عبر وسائط غير مرئية لكنها فائقة التحكم.
في هذا السياق، يمكن استحضار رمزية انسحاب إيلون ماسك من فريق مستشاري ترامب في عز الجدل حول خلافات بيئية سياسية حاسمة كإشارة ثقافية واستشرافية لهذا المولود الجديد؛ أي أن العقول التقنية الكبرى بدأت تتخلى عن السياسات الكلاسيكية، وتفكر في بدائل ما بعدالدولة، حيث الفاعل الأساسي لم يعد السياسي أو القائد، بل المهندس والمخترع والمبرمج…
مرحلة التفكيك لا تعني فناء الدولة بالضرورة لأن للدولة تجربة جماعية لا يمكن نسيانها بهذه البساطة، لكن مرحلة التفكيك ستعيد ترجمة الدولة إلى مستويات أكثر دقة وأكثر تايلورية، وربما أقل انفعالا. فالدولة لن تنسحب لتترك المكان للفوضى، بل ستفسح المجال لمجموعة من “الأنظمة المصغرة” التي تشتغل على مقاسات محلية أو مجتمعية أو ثقافية، بإشراف ذكاء صناعي يعد بالتحسين الدائم ويغرقنا في منطق “القياس” و”الأداء” و”التدقيق” على حساب القيم والتخمينات والإبداعات الإنسانية .
الديمقراطية، باعتبارها آلية تشاركية عقلانية، قد تصبح غير كافية لضبط هذه السرعة التقنية المتوحشة، أو تختزل في بروتوكولات شكلية تخفي خلفها خوارزميات صنع القرار. فهل ستبقى الديمقراطية ممكنة عندما تدار الشؤون العامة عبر أنظمة ذكاء اصطناعي تحدد الأولويات، وتتحكم في توزيع الموارد وتصنف المواطنين على أساس معطيات رقمية لا إنسانية؟ وهل تكون الدولة/القنطرة أداة لتحرير الإنسان، أم بنية لتدجينه مع رؤية السلطة المتحكمة، سلطة المال والآلة والتقنية والمعلومة…؟
ما نعيشه هو لحظة تحول كبير، أو لحظة ولادة: بين الخوف من فقدان السيطرة، والأمل في بناء شكل جديد من التعاقد الاجتماعي قد يكون فيه الإنسان شريكا في هندسة مستقبله، ولكن ربما في إطار بروتوكول تقني هدفه حماية الاستقرار .
اليوم نحن لا نغادر الدولة، بل نعيد اكتشافها عبر مفهوم جديد للسلطة، للثقة، وللعيش المشترك.
إن المرحلة المقبلة، رغم كل ارتيابيتها وضبابيتها، قد تكون جسرا تاريخيا نحو زمن تتفاعل فيه القيم الأخلاقية والسياسية مع المعطيات التكنولوجية في أفق تأسيس دولة جديدة: دولة غير مركزية، غير خاضعة للإيديولوجيا، لكنها أيضًا غير محايدة، لأنها ستظل بحاجة إلى قلب بشري يوجه الآلة، لا العكس.
وختاما، لابد من الإشارة إلى أنه، في قلب هذا التحول، ستعود الشعبوية كأعراض وآثار جانبية لانسداد الأفق الديمقراطي. ليس كردة فعل على التفاوتات الطبقية، وإنما كمحاولة لاسترجاع صوت مفقود في دوامة التقنية والبيروقراطية.
الشعبوية هي ذلك الصراخ الجماعي الذي تبحث بواسطته الإنسانية عن الخلاص في شخص/كائن إنساني، لا في مشروع، في رمز كاريزمي للإنسان القائد، لا في عقد عقلاني مشترك. والشعبوية كما هي في علم السياسة هي محطة لانبثاق السلطوية من جديد وفي أكثر صورها بدائية: أي القرار الأحادي المنتشي بالانفعال الجماهيري، في خفوت للفعل العمومي المستنير.
نعم، ستلوح السلطوية كبديل مغر لزمن القلق، حيث تسوق اليقين بدل التعدد، والنظام بدل الفوضى، والصرامة بدل الحوار.
نعم، و سيكشف هذا المنقذ الجديد عن طبيعته الشمولية في عملية تخدير ماكرة أمام التاريخ وفي مناورة أخرى تغدو فيها الحرية شكلًا من أشكال العطب، لأن إعادة تشكيل الحياة الجماعية سيكون فيها الفرد وحدة قابلة للحساب، خاضعة لمعيار الأمن والفعالية فقط.
السؤال الذي نحاول طرحه معكم في نهاية هذا النبش الاستشرافي، هل ما زال بالإمكان بناء فضاء عمومي عقلاني للاختلاف والأمن، فضاء تتفاوض فيه الإرادات على أسس الحجة لا على وقع الشعبويات؟ وهل تستطيع السياسة، بعد أن تمت استعارتها من مجال الاقتصاد ومن منطق الآلة، أن تستعيد بعدها الإنساني، بما فيه من تسامح وتعدد؟
ربما لن يكون هناك في المستقبل حسم سهل بين القيم الإنسانية والآلة، بل سعي مرير لتثبيت ماراكمه الإنسان من قيم وأخلاق وسط الرمال المتحركة.
نحن في أمس الحاجة إلى الفلسفة في هذه المرحلة لتثبيت الأسئلة الجوهرية حول العدالة، المساواة، التوزيع العادل للثروات، لأن السؤال الفلسفي هو الكفيل بإزالة الكوابح التي يضعها الإنسان خطأ أمام التاريخ، فالتاريخ لا ينتهي في أسئلة الفلسفة، بل هو فقط يعيد تشغيل نفسه وفق مقاربات أخرى تبقى فيها السياسة فنا مقدسا فوق كل الخوارزميات، فنا لصناعة الحياة المشتركة من جديد.