في زمن يتسم بتعاظم التحديات الأخلاقية، وتفاقم الأزمات الاجتماعية والتربوية، لم يعد مستغربًا أن تتحوّل بعض المنصات الإعلامية – لا سيما تلك التي تشتغل في الفضاء الرقمي – إلى بوق للتفاهة، ووسيلة لاغتيال الوعي الجمعي، عوض أن تكون صوتًا للضمير المجتمعي ومرآة تعكس القضايا الحقيقية التي تستحق الضوء والعدسة.
ما نشهده اليوم من إصرار بعض “حاملي الميكروفونات” على نشر مقاطع مُهينة لتلاميذ وتلميذات أمام المؤسسات التعليمية خلال فترة امتحانات البكالوريا، ليس مجرد فعل معزول أو اجتهاد صحفي ساذج؛ بل هو انحراف خطير في سلّم القيم وفي مفهوم الإعلام نفسه. إذ كيف يُعقل أن تتحوّل لحظة تربوية حساسة، تقتضي الدعم والتشجيع والاحتواء، إلى فرصة للتهكم والسخرية واستدرار النقرات؟
إن تصوير التلاميذ في لحظات الارتباك والتعب، واستدراجهم بأسئلة فارغة ومحرجة، ثم نشر تلك المقاطع للتفكّه والتندر بها على أوسع نطاق، هو انتهاك صريح لحقوق الطفل، ولحرمة المدرسة، ولأبسط المبادئ المهنية والأخلاقية. والمُقلق أكثر، أن بعض الآباء والأمهات يتابعون هذا “المحتوى” دون وعي بخطورته، فيما تغيب جمعيات الآباء وأولياء الأمور عن المشهد، وكأنها بلا دور يُذكر، في حين أن الواجب يملي عليها اللجوء إلى القضاء لحماية كرامة أبنائها، والدفاع عن حرمة المدرسة العمومية.
أما الوجه الآخر لهذا الانحدار الإعلامي، فهو ما نراه من تغطيات مبتذلة لقضايا لا تمتّ للمصلحة العامة بصلة: من تسليط الأضواء على العاهرات والمثليين، إلى تتبع أخبار الدجالين والمشعوذين، ثم النزول بمستوى “الريبورتاج” إلى غرف النوم و”البث الحي” من داخل الأسرة المغربية، بلا حياء ولا حشمة… فأين هي قضايا الوطن الحقيقية؟ أين هي التغطيات التي توثّق معاناة ذوي الإعاقة الذين يحتجون أمام المؤسسات الرسمية طلبًا للكرامة؟ أين التغطيات التي تنقل صور التهميش في القرى، والخصاص في المستشفيات، ومأساة الأطفال في الجبال؟
قال الله تعالى:
﴿وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ ۚ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ﴾.
فكيف بمن لا يكتُم الشهادة فحسب، بل يستبدلها بتضليل ممنهج وسطحية قاتلة؟
ويقول سبحانه:
﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾ .
فأين “الحُسن” في تصوير التلاميذ على هذا النحو المخجل؟ وأين هي المسؤولية في تكريس الرداءة والتشهير المجاني؟
لقد قيل قديمًا:
“من جهل شيئًا عاداه، ومن لم يزن الكلمة قبل أن يتفوه بها، خان الأمانة قبل أن يُكلف بها.”
وقيل أيضًا:
“الإعلام إما أن يُصلح الأمة أو يُجهز على ما تبقّى منها.”
إن ما نراه اليوم هو إعلام يُجهز على ما تبقى.
وأمام هذا الواقع، لا بد من دق ناقوس الخطر، والدعوة إلى مساءلة مهنية وأخلاقية عاجلة، تشمل الفاعلين في هذا المجال، وتحفّز الجمعيات والأسَر والسلطات الرقابية على التحرك الفوري. فالأمر لا يتعلق بحرية التعبير كما يظن البعض، بل بحرية التخريب الأخلاقي التي صارت تتوارى خلف ستار “المحتوى الترفيهي”.
إن صيانة كرامة المدرسة، والتلميذ، والأسرة، والمجتمع، ليست ترفًا ولا خيارًا… بل مسؤولية وطنية ملحّة.
وإلى أن يتحقق ذلك، ستظل الميكروفونات الملونة والملوثة تُمعن في اغتيال ما تبقّى من وعي.