عزيز الحنبلي -تنوير
عاد النقاش السياسي والحقوقي المغربي إلى الواجهة من جديد، عبر سجال محتدم بين مناضلين وفاعلين فكريين حول تقييم تجربة العدالة الانتقالية، ودور الحركات الاحتجاجية، خصوصاً حراك الريف، في مسار البناء الديمقراطي بالمغرب.
الشرارة الأولى جاءت من تدوينة للناشط اليساري الحقوقي علي بلمزيان، تحت عنوان “ضد حراس الهزيمة: في نقد تزييف الوعي وتشويه النضال الشعبي”، هاجم فيها القراءات التي تصف الحركات الاحتجاجية، وعلى رأسها حراك الريف، بأنها “أفعال رجعية” أدت إلى “استنزاف الرصيد الديمقراطي”. بلمزيان اعتبر أن هذا النوع من التحليل لا يختلف عن الخطاب السلطوي الرسمي الذي يُدين الاحتجاج، ويحوّل الجلاد إلى ضحية.
بلمزيان شدد على أن حراك الريف، كما حركة 20 فبراير، ليس فعلًا عبثيًا أو رجعياً، بل هو امتداد طبيعي لغضب شعبي متراكم، يُعبّر عن اختلالات اجتماعية وهيكلية. وانتقد بشدة الأطروحات التي تفرغ الفعل الاحتجاجي من مضمونه، وتُلبسه ثوب المؤامرة الجيوستراتيجية أو الاندفاع العاطفي، مؤكداً أن “الرصيد الديمقراطي لا يُستنزف في الشارع، بل يُبنى فيه”.
في المقابل، وصف الصحفي يونس دافقير حراك الريف بأنه كان “فعلًا ثورياً رجعياً” استنزف ما تبقى من الأفق الديمقراطي الذي فتحته حركة 20 فبراير. وأضاف أن تلك الحركة ذاتها كانت امتدادًا لترتيبات أمنية وجيوستراتيجية دولية، داعيًا إلى الكف عن “أساطير النضال” و”أولياء التغيير الصالحين”، وفق تعبيره.
تدخل الفاعل الحقوقي عبد السلام بوطيب بدوره، داعيًا إلى قراءة الأحداث من خلال منهجية العدالة الانتقالية، مؤكدًا أن المغرب استطاع تفادي مصير دول كسوريا أو ليبيا بفضل تجربة “الإنصاف والمصالحة”. وأشار إلى أن ما سُمي بـ”الرصيد الديمقراطي” لم يكن منفصلًا عن هذا المسار، محذرًا من إغفال خصوصية السياق الوطني والتركيز فقط على التحليل الطبقي أو المؤامرات الخارجية.
بوطيب اعتبر أن حراك الريف يجب أن يُفهم في إطار أزمات الذاكرة الجماعية، وليس فقط كصراع طبقي أو احتجاج اجتماعي، داعيًا إلى العودة إلى طاولات الحوار الوطني التي تجمع كل الفاعلين السياسيين والحقوقيين، من اليسار واليمين، من أجل التقدم في مسار ديمقراطي يتسع للجميع.
ردّ بلمزيان على بوطيب جاء حادًا، تحت عنوان “أوهام المصالحة ودفن السياسة”، حيث انتقد ما وصفه بـ”التبرير الناعم لاستمرار البنية السلطوية” عبر استدعاء تجربة الإنصاف والمصالحة، مؤكدًا أن تلك التجربة لم تقم بقطيعة حقيقية مع سنوات القمع والفساد، بل أعادت إنتاج نفس البنية تحت غطاء حقوقي.
وشدد بلمزيان على أن تصوير حراك الريف كحالة نفسية أو رمزية هو تبخيس للحراك، وتقزيم لطبيعته السياسية والاجتماعية الواضحة، معتبرًا أن “العدالة الانتقالية التي لا تلامس البنية، ولا تُحاسب، تصبح مجرد سردية وطنية تبريرية”.
هذا السجال، وإن اتخذ طابعًا شخصيًا أحيانًا، يكشف عمق الانقسام داخل النخب السياسية والحقوقية المغربية حول تقييم ماضي الحراك، وتصور مستقبل الإصلاح. بين من يؤمن بفعالية العدالة الانتقالية كإطار مؤسساتي واقعي، ومن يرى فيها مجرد واجهة ناعمة لإعادة إنتاج السلطوية، يظل الشارع المغربي حائرًا بين خيبات الماضي وتطلعات المستقبل.
وإذا كان من خلاصات لهذا الجدل، فهي أن التحليل السياسي في المغرب يحتاج إلى عمق أكبر، ووضوح أخلاقي يضع الجماهير لا المؤسسات في قلب المعادلة. فهل نعود إلى موائد الحوار، أم نمضي في طريق أكثر جذرية؟ سؤال مفتوح على المستقبل.
1 يونيو 2025