وجهة نظر

من الحوار إلى المعاطية: فوضى الرأي في زمن الجفاء بقلم: حميد قاسمي

 

في زمنٍ يُفترض فيه أن تكون المعرفة وسيلة للتقارب، والحوار أداةً للتفاهم، والتنوع الفكري رافدًا للغنى الثقافي، أصبحنا – بكل أسف – نعيش واقعًا يزداد فيه منسوب التعصّب، وتتراجع فيه فضيلة النقاش المحترم، لتحلّ محلها مظاهر الانغلاق، وتبادل التهم، والتطاول بالألفاظ بدل التدافع في الحُجج والأفكار.

لقد بات التعصّب للرأي – أياً كان مصدره – آفةً تعصف بكثير من العقول، فتُغلِق باب التفاهم، وتُشيطن المخالف، وتُحِلّ الخصومة محل التلاقح الفكري. ولا يُقصد بالتعصّب هنا الثبات على المبادئ، بل الجمود الذي يُقصي كلّ رأي آخر، ويُعامل أصحابه على أنهم خصوم لا شركاء في الاختلاف.

وقد عبّر الإمام الشافعي، رحمه الله، عن هذا المعنى الجليل بقوله: “ما ناظرت أحداً إلا ووددت أن يُظهر الله الحق على لسانه دوني،” في إشارة إلى سموّ المقصد من الحوار، وأن غايته ليست الغلبة في الجدال، بل الوصول إلى الحقيقة، ولو على يد الطرف الآخر.

وفي إحدى أشهر القصص التاريخية التي تدلّ على نُبل أدب النقاش، يُروى أن الخليفة العباسي المأمون جمع بين الإمام أحمد بن حنبل وخصومه في “مسألة خلق القرآن”، وكان الحوار بين الطرفين محتدماً، إلا أنّ الإمام أحمد – رغم ما تعرض له من تضييق وتعذيب – لم يسبّ أحداً من مخالفيه، ولم يشتم خصومه، بل دعا لهم بالمغفرة، قائلاً: “هم قومٌ اجتهدوا، فأخطأوا.”
فأين نحن اليوم من مثل هذا الخُلق الرفيع؟ وكيف أصبح الخلاف في أبسط القضايا سبباً في القطيعة والتباغض؟

أما في الفكر الغربي، فقد كان الفيلسوف سقراط يقول لتلاميذه: “إنّ بداية الحكمة هي الإصغاء.” وفي قوله هذا دعوة ضمنية إلى احترام الرأي الآخر، والتواضع أمام المعرفة، والانفتاح على وجهات النظر المختلفة، لا سيما في قضايا الفكر والرأي والاجتهاد.

وقد كان الفارابي، الملقب بـ “المعلم الثاني”، يرى أن المدينة الفاضلة لا تقوم إلا على التعاون الفكري، واحترام التعدد في الآراء، لأنّ الحقيقة ليست حكراً على عقلٍ واحد، بل ثمرةُ تلاقحٍ بين العقول.

ولا يفوتنا أن نذكر ما ورد عن الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين قال: “رحم الله امرأً أهدى إليّ عيوبي.” وهي دعوة صريحة إلى قبول النقد، لا صدّه؛ والبحث عن مواضع الخطأ، لا التمترس وراء العصبية والهوى.

إنّ ما نشهده اليوم من هبوط في مستوى النقاش العام، واستسهال التجريح، والتنابز بالألقاب، والتعامل مع الاختلاف كتهديد لا كفرصة، هو أمر يستدعي دق ناقوس الخطر، لأنّ الأمم التي تفقد القدرة على النقاش الحضاري، وتستبدل الحُجة بالصراخ، تنقرض فيها الأفكار وتعلو فيها الضغائن.

ولعلّ من واجبنا اليوم، كمثقفين وفاعلين في الشأن العام، أن نعيد الاعتبار لقيمة “الاختلاف في إطار الاحترام”، وأن نربي الأجيال الصاعدة على ثقافة الحوار، لا ثقافة الإلغاء؛ وعلى أدب التعدد، لا عنف الرأي الواحد؛ وعلى التواضع في طلب الحقيقة، لا التكبر باسم امتلاكها.

فالعقل الحرّ لا يخاف من الاختلاف، واللسان الرصين لا ينجرّ إلى السباب، والمجتمعات الواعية لا تُدار بالغلبة، بل تُبنى بالتفاهم، ويعلو شأنها بالتربية على الإنصات، وقبول الآخر، والتفريق بين الخصومة في الفكرة والعداوة في النفوس.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى