كريستوف بوتون يساهم في الكتاب الجماعي حول “فينومينولوجيا الروح” لهيجل (الجزء الثاني)

نقد هيجل لعصر الأنوار
كتب هيجل أن بومة مينيرفا لا تطير إلا عند حلول الليل. وهذا يعني أن الفيلسوف، مثل المؤرخ، لا يدرس العمليات التاريخية إلا بعد حدوثها. وهذا هو الحال بالضبط بالنسبة لعصر الأنوار. وعندما تحدث هيجل عن هذه الأليغوريا في بداية القرن التاسع عشر، كانت هذه المدرسة الفكرية قد وصلت، إن لم يكن إلى نهايتها، فعلى الأقل إلى أفولها. ومن ثم يصبح لدى الفيلسوف المنظور اللازم لتقييم الوضع. فما هي؟
بالنسبة إلى هيجل، لا يتميز عصر الأنوار بمشروع نشر المعرفة بقدر ما يتميز بطريقة التفكير الجديدة التي تشكل أساس هذا المشروع: ما أسماه في القسم السابق “الفكر الخالص” حيث “المفهوم في حقيقته هو وحده الفعال”.
يمثل عصر الأنوار ظهور قوة المفهوم. نحن نعتبر فقط ما يمكن تصوره وفهمه بالفكر هو الحقيقة والواقع. الفكر، “الفكر الخالص، بما هو مفهوم مطلق، حاضر بقوة سلبيته التي تقضي على كل جوهر متعارض- مع، يفترض فيه أن يواجه الوعي، ويجعل منه كائناً واعياً”.
إن الفكر الخالص يلغي كل جوهر موضوعي بالمعنى الذي يدركه به، ويختزل غرابته إلى مجرد وجود واع، أي إلى شيء يعرفه الوعي، ويسيطر عليه بالفكر. تتمثل سلبية المفهوم في نفي غرابة أي شيء من أجل تحويل المجهول إلى معروف، وهذا في أكثر المجالات تنوعا: الطبيعة العضوية وغير العضوية، والسياسة، والتاريخ، والفن، والدين، إلخ.. إن المشروع الموسوعي، رمز العقلانية التنويرية، هو، وفقا لهيجل، مجرد تنفيذ معمم لهذا النمط من التفكير.
لكن هذه السلبية في هذا المفهوم ذات حدين. بالنسبة إلى مؤلف كتاب “فينومينولوجيا الروح”، يعد فكر الأنوار فكر الفهم، وهو فكر مجرد يفصل بين تحديدات الأشياء المفكر فيها ويفتقر إلى المحتوى. إن الفكر الخالص غير قادر بشكل خاص على فهم المحتوى الحقيقي للدين والإيمان، الذي يقاومه بلا هوادة. بالنسبة إلى هيجل، لا ينبغي سحق الدين (“سحق السيئ السمعة”)، بل يجب تصوره، وترجمة تمثلات الإيمان إلى لغة المفهوم، من أجل فهم بعدها الروحي.
في كتابه “الفينومينولوجيا”، يضع هيجل في مواجهة عصر الأنوار استعارة المرض التي استخدمها فولتير لوصف التعصب الديني، “مرض النفوس”. وهو يقارن الأنوار بمرض معد انتشر تدريجيا عبر الجسد والعقل. وعندما يدرك الإيمان ذلك، يكون الأوان قد فات، ولا يؤدي العلاج إلا إلى تفاقم المرض. تنتقد الأنوار الإيمان لأنه يعبد الله بأشياء محسوسة، لا علاقة لها بالله. يختزل الإيمان الله إلى “قطعة من حجر، أو كتلة من خشب لها عيون ولكنها لا ترى، أو قطعة من عجين الخبز التي تنمو في الحقول، يحولها البشر ويعيدونها إليهم، – أو إلى بعض أنماط الوجود الأخرى التي بموجبها يتعامل الإيمان مع الجوهر بطريقة مجسمة، ويجعله متعارضا-مع وتمثلًا”.
في مواجهة مثل هذه الانتقادات، أثبت هيجل، بالنسبة إلى لإيمان المسيحي، ألا وجود لفصل بين المحسوس والمعقول، بين الإلهي ومظاهره الزمنية. فالإيمان هو فكرة ملموسة، قادرة على توحيد القرارات المتعارضة. الإيمان لا يعبد الحجر أو الخشب، بل يعبد الله من خلالهما. بالنسبة إليه، الخبز هو جسد المسيح، والتمثال الحجري أو الخشبي هو حضور الله في الجماعة. وهذا هو معنى التجسد الإلهي في المسيحية، والذي سيتم شرحه في الفصل السابع (القسم ج: “الدين الظاهر”). بالنسبة إلى هيجل، لا يستطيع الفكر الخالص للأنوار أن ينجح في التفكير في التجسد، ووحدة المحسوس والمعقول، لأنه مجرد.
إن حقيقة الأنوار تنقسم إلى اتجاهين متعارضين. من جهة هناك الربوبية مع عبادة الكائن الأسمى (فولتير، روسو)، ومن جهة أخرى هناك المادية (ديديرو، دي هولباخ، لا ميتري). وفي كلتا الحالتين، لدينا فكرة رديئة، إن لم تكن فارغة، ولا تقول إلا القليل عن موضوعها. إن إله الربوبية كيان مجرد غير مجسد، ولا نستطيع أن نقول عنه إلا أنه موجود كصانع ساعات عظيم أو خالق حكيم للعالم. وللهروب من الخرافة، يجعل التفكير الخالص من الله “فراغا لا يمكن أن يرتبط به أي محدد أو مسند” – “الكائن الأسمى (l’être suprême)
[بالفرنسية في النص] أو الفراغ “. والشيء نفسه ينطبق على مادة الماديين:
“المادة الخالصة هي فقط ما يبقى عندما نتجرد من الرؤية واللمس والذوق، إلخ..؛ ليس الأمر هو المادة التي تُرى أو تُلمس أو تُتذوق، بل اللون، أو الحجر، أو الملح، وما إلى ذلك؛ إنها مجرد تجريد خالص”.
سواء كان الفكر التجريدي للأنوار ربوبيا أو ماديا، فهو خالٍ من التحديدات، وبالتالي فهو ليس معرفة حقيقية. بهذا المعنى، استطاع هيجل أن يكتب في مكان آخر بسخرية: “النور الخالص هو ظلام خالص”.
إن النقد الهيجلي لاذع. ولكن ربما قد يكون الشجرة التي تخفي الغابة. هيجل هو وريث الأنوار أيضا في نقطة أساسية واحدة على الأقل: أولوية الفكر على الإيمان، وأولوية المفهوم على التمثيل، وأولوية الفلسفة على الدين. في كتابه “فينومينولوجيا الروح”، يوضح أن الأنوار لها حق مطلق ضد الإيمان، حق قوة المفهوم. الإيمان هو “الوعي النائم، الذي يعيش في الأفكار فقط دون مفهوم”.
أمام هذا المعطى، يكون للأنوار “الحق المطلق في ممارسة العنف الذي يمارسه العقل على الإيمان”. يبدو أن هيجل وضع الفكر الخالص والإيمان جنبا إلى جنب. ولكن العلاقة بين الاثنين ليست متناظرة تماما، بمعنى أن المفهوم يجب أن يطبق قانونه، وينتصر في نهاية المطاف .
المشكلة هي أن الفكر الخالص للأنوار يؤدي إلى النفعية التي هي، بالنسبة إلى هيجل، حقيقته: الإنسان يسير في العالم “كما في حديقة مزروعة من أجله”. الأشياء مفيدة، العقل مفيد، الآخرون مفيدون، والله هو “المفيد الأعظم”. إن هذه النفعية هي النسخة العملية للفكر الخالص. ويتم تقييم المؤسسات الدينية والسياسية في حد ذاتها وفقاً لـ”فائدتها الاجتماعية”.
إن عالم الأنوار هو عالم مفيد، خال من كل تجاوز إلهي، “جنة على الأرض”.
ينتهي نقد هيجل للأنوار بهذه الملاحظة: “لقد تصالح العالمان، وهبطت السماء إلى الأرض لتجد نفسها هنا مزروعة”. إن الأرض ترمز إلى عالم الفكر الخالص الذي يفتقر إلى المحتوى الجوهري، والسماء ترمز إلى عالم الإيمان الذي يفتقر إلى الفعالية (“مملكتي ليست من هذا العالم”، كما قال المسيح في الإنجيل). هذه الصيغة غامضة.
من ناحية أخرى، يشير ذلك إلى أنه في نهاية عصر الأنوار، سيتم تجاوز انقسام العالم الخاص بعملية الثقافة لصالح عالم واحد، حيث يتم التوفيق بين العقلانية والفعالية التاريخية. ومن ناحية أخرى، فإن التجربة التالية للوعي سوف تظهر أن المصالحة لم تكتمل بعد. ونظرا لمحتوى القسم المخصص لـ”الحرية المطلقة والإرهاب”، فمن المرجح أن تكون صورة نقل السماء إلى الأرض ساخرة؛ لأن الفردوس الأرضي سوف يتحول إلى جحيم.
(يتبع)