وجهة نظر

التطوّر لا يتناقض مع الثقافة والهوية – ماجد القيسي

في زمن تتسارع فيه التحوّلات، وتُعاد فيه صياغة العالم بفعل التكنولوجيا والمعرفة والعولمة، يواجه كثير من المجتمعات العربية سؤالًا جوهريًا: كيف نحقق التطوّر دون أن نفرّط في ثقافتنا وهويتنا؟ والإجابة على هذا السؤال تبدأ من فهمٍ عميقٍ لمعنى التطوّر ومعنى الثقافة والهوية، والعلاقة بينهما.
التطوّر ليس مجرد تقليد أعمى لنماذج خارجية، بل هو عملية داخلية تبدأ من حاجات المجتمع نفسه، وتستثمر في قدراته، وتبني على تاريخه وثقافته. هو سعي دائم لتحسين شروط الحياة، والارتقاء بالتعليم، والاقتصاد، والصحة، والإبداع، دون أن يعني ذلك نزع الجذور أو تهميش الموروث.
أما الثقافة والهوية، فليستا قوالب جامدة أو رموزًا ثابتة لا تقبل التغيير، بل هما كيانان حيّان يتفاعلان مع الواقع ويغتنيان من التجارب الجديدة، شريطة ألا يُفرَّط في جوهرهما. فالثقافة ليست ضد التكنولوجيا، ولا الهوية ضد الحداثة، بل هما قادران على استيعاب كل جديد، وتطويعه في خدمة الإنسان والمجتمع.
التاريخ يشهد أنّ المجتمعات التي استطاعت أن تتطور وتحافظ في الوقت نفسه على هويتها، كانت أكثر استقرارًا وأقوى تأثيرًا. فاليابان مثلًا، حين انفتحت على الغرب بعد الحرب العالمية الثانية، لم تتخلَّ عن لغتها ولا عن تقاليدها، بل طوّرت نظامًا صناعيًا واقتصاديًا هو من بين الأقوى عالميًا، دون أن تفقد شعورها بذاتها. وتركيا، وماليزيا، وسنغافورة نماذج أخرى تثبت أنّ التطوّر لا يعني بالضرورة التغريب أو الذوبان.
في السياق العربي، فإن العودة إلى الذات، ومعرفة مكامن القوة في التاريخ والثقافة، والتعامل مع الهوية بوصفها مصدر طاقة لا قيدًا، هو الخطوة الأولى نحو نهضة حقيقية. ولا بد أن يصاحب ذلك انفتاح على العلوم الحديثة، وتطوير للمنظومة التعليمية، وتعزيز لقيم العمل والإنتاج، وتحفيز على الإبداع. لأنّ الهوية بدون تطوير تصبح عزلة، والتطور بدون هوية يصبح فقدانًا للمعنى.
من هنا، فإن تبنّي رؤية نهضوية للمجتمعات العربية، قائمة على الالتزام بقضايا الأمة والسعي لنهضتها، لا يمكن أن يتحقّق إلا بفهم عميق لحقيقة أنّ التطور لا يتناقض مع الثقافة والهوية، بل هما جناحا الطيران نحو المستقبل. التقدّم لا يعني أن نخلع ثيابنا الثقافية، بل أن نُعيد تفصيلها بما يناسب العصر، دون أن نفقد ملامحنا الخاصة.
فالتحدّي الحقيقي ليس في الاختيار بين الأصالة والمعاصرة، بل في الجمع بينهما، وتقديم نموذج حضاري عربي يُشبهنا، ويعبّر عنا، ويساهم في الإنسانية من موقعٍ أصيل ومتقدّم في آنٍ معًا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى