نــــجــــيــــب خـــيـــاط
السياسة ساحةً لا مكان فيها للضعف أو العواطف، بل تحكُمها قواعد الواقعية والبراغماتية. هذا النموذج – وإن بدا قاسيًا – يتبناه الكثير من الدول التي تضع بقاءها ومصالحها الاستراتيجية فوق كل الاعتبارات الأخلاقية أو المثالية.
في عالم يتغير بسرعة مذهلة، تبدو السياسة وقد تخلّت نهائيًا عن وهم المبادئ، لتعتنق منطقًا أكثر صراحة: القوة أولًا. لم تعد العواطف ولا النوايا الحسنة تصنع التحالفات أو تحرّك السياسات، بل بات كل شيء يُوزن بميزان المصلحة والهيمنة. هذا التحول ليس عارضًا، بل يُشكّل بداية مسار طويل، حيث لا يكفي للدولة أن تتأقلم مع منطق القوة، بل يجب أن تنتجه، وتُراكمه، وتستثمره كأصل استراتيجي.
الدول لم تعد تتحرك بدافع البحث عن الاستقرار أو العدالة، بل بدافع السيطرة، الردع، والتأثير. فالعالم يتجه نحو نظام جديد، لا تحكمه مرجعية أخلاقية واحدة، بل توازنات هشة بين قوى تبحث عن فرض ذاتها بأي ثمن. حتى الشعارات الكبرى مثل “الديمقراطية” أو “حقوق الإنسان” تحوّلت إلى أدوات توظيفية، تُرفع حين تخدم مصلحة، وتُطوى حين تتعارض معها. نحن أمام مشهد سياسي لا مكان فيه للبراءة، حيث كل دولة تُصيغ خطابها من موقع ما تملك، لا مما تؤمن به.
لقد صار بناء القوة مشروعًا قائمًا بذاته، له نظرياته وخبراؤه واستراتيجياته. القوة لم تعد مجرد وسيلة للحماية، بل أصبحت غاية بحد ذاتها. من يتحكم في الموارد، في التكنولوجيا، في المعلومات، في المنصات، هو الذي يُملي الإيقاع على الآخرين. العالم لا يُقاد بمنطق القانون، بل بمنطق الردع، ومن لا يُشكّل تهديدًا يُهمَّش أو يُبتلع.
هكذا، ننتقل من سياسة الحوار إلى سياسة الاصطفاف، ومن التعاون إلى التموقع. لا شيء يدوم سوى المصلحة، ولا تحالف يُبنى على الوفاء، بل على فائدة آنية قابلة للانقلاب في أي لحظة. هذا هو منطق الصراع، وقد صار علنيًا، معلنًا عن نفسه دون مواربة.
الأسئلة الأخلاقية في هذا السياق تبدو ثانوية، وربما حتى ساذجة. لا لأن الأخلاق بلا قيمة، بل لأن منطق العالم اليوم لا يمنحها فرصة التأثير. في كل مرة تُطرح فيها قضية إنسانية، تُقابل بحسابات توازنات القوى. في كل مرة يُندَّد بانتهاك، يُردّ عليه بسؤال: وماذا سأربح إن تدخلت؟ لقد صار “الحق” يُقاس بمقدار ما يخدم مصالح الأقوياء، لا بصفته معيارًا كونيًا.
ورغم كل هذا، لا يبدو أن هذا النموذج سيشهد تراجعًا قريبًا، بل العكس. كل المؤشرات تدل على أن المرحلة المقبلة ستكون أكثر صراحة، وأكثر تبلورًا لهذا النمط من التفكير: الواقعية الصدامية التي لا تؤمن إلا بمنطق القوة، وتعيد تشكيل السياسة كصراع مفتوح لا تعنيه العدالة بقدر ما تعنيه السيطرة.
ربما كنا في السابق نخجل من قول ذلك صراحة. أما اليوم، فقد أصبح هذا هوالمنطق المهيمن، يُدرّس ويُخطط له ويُحتفى به. لا مكان للضعف، لا قيمة للعاطفة. فقط من يستطيع أن يُنتج التهديد، يملك أن يُملي الشروط. هذه ليست النهاية، بل فقط البداية.