وجهة نظر

الاقتصاد غير المهيكل والريع في المغرب: إفلاس تاريخي يتم إعادة توريثه أم مشروع وطني مؤجل؟

منير الطاهري
أكثر من عشرة ملايين مغربي اليوم يمارسون مهنا وحرفا دون تكوين رسمي أو إشهاد مهني. هم نواة الاقتصاد غير المهيكل، المشتغل في الظل، الحاضر في كل بيت وشارع وضيعة ومصنع تقليدي. يتعلمون المهنة على يد “معلم”، ويعيشون بلا حماية اجتماعية ولا حقوق مهنية. سنوات وهم يديرون عجلة الإنتاج دون أن تكلف الدولة نفسها عناء تمهينهم أو إدماجهم في دورة اقتصادية مهيكلة ومنصفة.
لكن، هل هذا مجرد فشل في السياسات؟ أم أن هناك قصة ارتجال مشوقة حصلت في المغرب مند الاستقلال بعد الانقلاب على أول مشروع وطني لبناء اقتصاد وطني علمي ومهيكل بعد الاستقلال؟
لم يكن واقع اليوم خطأ غير مقصود، بل هو نتيجة مسار سياسي واختيارات نخبوية بدأت مع إفشال تجربة حكومة عبد الله إبراهيم سنة 1959 والتي كانت تراهن على الاستقلال الاقتصادي، والعدالة الاجتماعية، والاستثمار في المدرسة الوطنية وتكوين العبقرية المغربية والخبرات الوطنية وبناء برجوازية وطنية منتجة.
لم يكن إجهاض هذه التجربة صدفة، بل تم بإرادة تحالف بين جزء من النخبة المخزنية النافذة وما عُرف لاحقا بـ “جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية”، وبدعم من خيارات خارجية فرنسية كانت ترى في التوجه الوطني تهديدا مباشرا لمصالحها الاستعمارية المستمرة في المغرب.
وكانت النتيجة: اختطاف المهدي بن بركة، إعلان حالة الاستثناء، وبعدها سنوات الرصاص، ثم ترسيخ خيار اقتصادي يقوم على الريع، الزبونية، واستبعاد الطبقات الشعبية من معادلة التنمية.
أولا : اقتصاد الظل: واقع ممنهج أم خيار مؤجل؟
اليوم، لا تزال الدولة تعيش على إيقاع اقتصاد غير مهيكل يمثل حوالي 30 إلى 40% من الناتج الداخلي الخام، ويشغل أكثر من 60% من اليد العاملة حسب أرقام المندوبية السامية للتخطيط وبنك المغرب.
إلا أن الأخطر من ذلك هو الوضع الاجتماعي الصادم الذي كشف عنه تقرير حديث للمندوبية، والذي بيّن أن هناك أكثر من 5.9 ملايين شاب مغربي تتراوح أعمارهم بين 15 و34 سنة لا يدرسون، لا يعملون، ولا يستفيدون من أي تكوين مهني. هذه الفئة المسمّاة “NEET” هي وجه آخر لإفلاس السياسات العمومية، وضحية مباشرة لمنظومة تعليمية غير منصفة، وسياسات تشغيل منسلخة عن الواقع، ونموذج اقتصادي لا يعترف بالطاقات البشرية إلا كأرقام هامشية.
ما موقع هؤلاء من النموذج التنموي الجديد؟
من يحتضنهم؟ من يصغي إليهم؟ وهل يمكن بناء وطن، بينما أكثر من نصف شبابه تائهون في العدم الاجتماعي؟
ثانيا: مشروع تنموي نخبوي منسلخ عن المقدرات الشعبية
ما يُسمى بـ “النموذج التنموي الجديد” قدم نفسه كتصور استراتيجي للمستقبل، لكن كما لاحظ الاقتصادي نجيب أقصبي، فإنه جاء ليؤكد أن الاقتصاد المغربي سيظل مرتهنا بالارتباط بالمظلة الأوروبية، لا لحمايته بل لتمييعه وفكفكة تناقضاته. ولذلك تم التركيز على البنية التحتية، والمناطق الصناعية، وربط الموانئ، والطريق السيار، في حين أهمل الإنسان، وتم تجاهل المدرسة العمومية، والتكوين المهني، والمقاولة الوطنية الصغرى والمتوسطة والاقتصاد الاجتماعي والاقتصاد الشعبي والعدالة الجبائية، وإعادة توزيع الثروة.
فأين المغاربة من هذا النموذج؟ أين موقع الفلاح الصغير، والحرفي، وسائق النقل المزدوج، والفتاة التي انقطعت عن الدراسة لتساعد أسرتها؟ بالعمل في الحقول أوالبيوت أو مانيفاكتورات سرية للنسيج في قبو بيت محصن؟ أو تاجر صغير للسمك؟
هل يراهن هذا النموذج على الإنسان؟ أم يتجاوزه لصالح بنية اقتصادية بعيدة عن الوطن؟
ثالثا: أسئلة وطنية مزعجة… لكنها ضرورية
لماذا لا يُعترف بملايين المغاربة كفاعلين اقتصاديين حقيقيين؟
لماذا لا يتم تمهين الحرف، وضمان إشهاد مهني، وتأطير قانوني للعاملين في الظل؟ من راعي الغنم إلى وسطاء النقل إلى حرفيي البناء والعمال الزراعيين؟
من المستفيد من إبقاء الاقتصاد غير المهيكل دون إدماج حقيقي؟
ومن يقاوم بناء مدرسة مهنية وطنية حديثة للتكوين المهني في جميع الأنشطة الاقتصادية المرتبطة بالعيش اليومي للمغاربة؟
لماذا لا يتم الاعتراف بالفئات التي تدير السوق بصمت، وتعيل الأسر وتحرك عجلة الإنتاج اليومي دون صخب أو لافتات؟ هؤلاء الذين يستيقظون قبل ضوء الفجر، ويقضون يومهم بين أوراش البناء، وضيعات الفلاحة، وأسواق الخضر، وورشات النجارة، ومحلات الحدادة، أو خلف مقود سيارة نقل أو دراجة ثلاثية العجلات، هم في الواقع شرايين الاقتصاد الوطني، حتى وإن لم يظهروا في تقارير الشركات الكبرى ولا في مؤشرات البورصة.
هم من يلبي حاجيات ملايين الأسر يوميا، ويضبط إيقاع السوق الشعبي، ويساهم في تشغيل آلاف من اليد العاملة غير المهيكلة. ومع ذلك، لا يعترف بهم كمقاولين، ولا يدرجون في أي سياسة عمومية واضحة المعالم، ولا يستفيدون من تمويل، أو تكوين، أو تغطية اجتماعية تليق بما يقدمونه من خدمات.
الاعتراف لا يعني فقط إصدار بطاقة مهنية، بل هو تصور شامل يدمج هذه الفئات في السياسات العمومية باعتبارها مكونا أساسيا من النسيج الاقتصادي الوطني، يعطيها حيزا مهما من التكوين المستمر في معاهد التكوين المهني ويعيدها للوطن كنخبة اقتصادية فاعلةويغريها بإكمال تعليمها الأكاديمي بواسطة تحفيزات وطنية.
المطلوب ليس الإحسان إلى هذه الفئة ولا رعايتهم، بل خلق شروط عمل كريمة، وفتح أفق للتطور، وتسهيل الانتقال من الهشاشة إلى الفعالية.
فلا يمكن الحديث عن تنمية حقيقية دون أن يشمل هذا المفهوم أولئك الذين يشكلون القاعدة الاقتصادية الحقيقية للبلاد. التنمية ليست أبراجا زجاجية في المراكز الاقتصادية بحي المطار أو بالرباط أو مارينات الحياة السعيدة لنخبة محظوظة ريعية ترعرعت في أحضان الامتيازات والهمزة، بل منظومة عادلة تشمل من يحرك السوق فعلا، ويمنحها نبضها الشعبي والوطني.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى