وجهة نظر

انتهت الحرب بين إيران وإسرائيل..من المنتصر؟ ولماذا؟ -د. محمد أكديد

ماإن انتهت الحرب بين ايران والكيان الصهيوني حتى خرج المرجفون والطائفيون مرة أخرى يبخسون من الإنتصار الإيراني على الكيان الصهيوني، ويستعرضون جرائم هذا الأخير ضد الجمهورية الإسلامية من خلال الضربات الغادرة التي تم فيها اغتيال عدد من القادة العسكريين والعلماء النوويين الكبار.
كما عادت مرة أخرى أسطوانة المسرحية لتصدر المشهد بالرغم من حجم الدمار الذي أصاب الطرفين، في حين آثر البعض العزف على الوتر البراغماتي بدعوة أن إيران إنما كانت تدافع عن وجودها وعن مصالحها فقط، وبأنها لم تحمل يوما هم غزة بدليل أنها أوقفت الحرب قبل أن يوقف الكيان مسلسل الإبادة في غزة ولن تفاوض بشأنها الأمريكي في استباق وقح لمخرجات هذه المفاوضات التي لم تبدأ بعد!! وذلك بالرغم من كل ما قدمته الجمهورية الإسلامية لنصرة غزة باعتراف قادة المقاومة الفلسطينية ومن ذلك خلق جبهات لإسنادها خلال معركة طوفان الأقصى..
بداية، وردا على من يزعم بأن اسرائيل هي التي انتصرت في هذه الحرب، فلنعد قليلا بالذاكرة إلى الوراء لنستحضر أهداف العدوان على الجمهورية الإسلامية، والتي أعلنها الكيان الصهيوني قبل بداية الحرب، ولم يتحقق منها شيء حتى نسلم بانتصاره، حيث كان في أولوية هذه الأهداف؛ إنهاء البرنامج النووي الإيراني وهو ما لم يتم حتى بعد تدخل أمريكا لضرب المفاعلات المشهورة وفي مقدمتها فوردو الذي لم يتأثر بالضربة وفق تقارير منابر إعلامية أمريكية مثل CNN التي هاجمها ترامب مكذبا روايتها التي أكدها المسؤولون الإيرانيون الذين صرحوا بنقل أجهزة الطرد المركزي قبل الضربة إلى مواقع مجهولة، وعززها آخر تقرير للاستخبارات الأمريكية حول العملية..
كان أيضا يجري الحديث عن تجريد الجمهورية الإسلامية من قدراتها الصاروخية التي زادت حدة وقوة في الأيام الأخيرة للحرب، حيث استهدفت إيران في الدقائق الأخيرة وقبيل سريان مفعول وقف إطلاق النار الذي دعا إليه ترامب الطرفين، إسرائيل بست صليات صاروخية في مواقع مختلفة من مساحة الكيان لم تتصدى القبة الحديدية لأي منها، وقد نجم عن هذا سقوط عدد من القتلى فضلا تدمير منشآت من بينها أحد مراكز الموساد في بئر السبع..
ويأتي حلم إسقاط النظام الإسلامي في إيران، والذي لم يتحقق لهم، بعد أن صرح به نتنياهو أثناء العدوان الغادر، وكرره ترامب الذي صار موضوعا للتندر والسخرية عند المعارضة، بعد أن دعا الله لمباركة إيران واسرائيل بعد نجاحه في وقف الحرب بينهما..
في المقابل حققت الجمهورية الإسلامية في إيران مجموعة المكاسب من هذه الحرب، لعل من أبرزها إفشال مخطط الانقلاب على النظام الإسلامي وإعادة التأكيد على شعبيته بعد التفاف كافة أطياف الشعب الإيراني عليه وخروجهم إلى الشوارع تنديدا بالعدوان الصهيوني على بلادهم ومطالبتهم بالثأر، خاصة بعد علمهم بالبديل الذي كان يعده لهم الأمريكي والذي لم يكن سوى ابن الشاه المخلوع، والذي سخرت منه حتى معارضة الخارج. كما تم القبض على مجموعة من عملاء الكيان داخل الجمهورية الإسلامية وتفكيك عدد كبير من شبكات التجسس والخلايا النائمة التي كانت تنتظر لحظة الصفر لخلق الفوضى وإشعال الوضع في البلد من أجل تمكين العدو من تنفيذ مخططاته الخبيثة، من خلال مساعدته على ضرب الأهداف الاستراتيجية والعسكرية وتأليب الشارع الإيراني على النظام.
أيضا كشف الرد الإيراني القوي عن هشاشة القبة الحديدية التي كانت تتباهى بها اسرائيل وعن ضعف المضادات الجوية المبثوتة في عدد من القواعد بالمنطقة الأمريكية التي كانت تقوم باعتراض الصوايخ الإيرانية، حيث باتت اسرائيل عارية تماما أمام هذه الصواريخ المدمرة في النهاية، مما جعل نتنياهو يهرع مذعورا إلى ترامب من أجل إيقاف الحرب..وهو الأمر الذي جعل هذا الأخير يقوم بتلك الضربة الإستعراضية للمفاعلات النووية الإيرانية مع علمه بأن الايرانيين حتما سينفذون تهديداتهم بضرب القواعد الأمريكية، وهو ما تم فعلا بعد ضرب قاعدة العيديد القطرية..لكن ولأن المسؤولون الإيرانيون قد فهموا هدف الأمريكيين من ضرب مفاعلاتهم خاصة بعد استخدام قنابل محدودة، وهو إنهاء الحرب، وتماشيا مع تصريحاتهم بعدم السماح لإيران بامتلاك القنبلة النووية، وليس توسيع دائرة الحرب وجر المنطقة إلى حرب شاملة خوفا على قواعدهم ومصالحهم فيها، فقد تم إعلام الأمريكي مسبقا بضربة العيديد ليتم إخلاءها، كما تم التأكيد في بيان الحرس الثوري الذي تلا العملية على العلاقات الأخوية المتينة بين الشعبين وعلى هدف الجمهورية الإسلامية من هذه الضربة التي جاءت أيضا بمثابة تحذير للأمريكي إن هو تمادى في مغامراته دعما للكيان المحتل..
هكذا كان لابد لنتنياهو أن يذعن لترامب عندما أعلن وقف إطلاق النار من جانبه ووسط القطريين للتواصل مع الايرانيين لأجل قبول عرضه. وحتى بعد أن حاول الانتقام من الضربة الأخيرة التي وجهها الإيرانيون للكيان المحتل، فإنه لم يجد بدا من الرضوخ إلى ترامب عندما أمره في اتصال هاتفي بوقف الهجوم على ايران فورا بعد أن وصلت المقاتلات الصهيونية إلى المجال الجوي الجمهورية الإسلامية، حيث عادت كما قال ترامب ساخرا بعد أن ألقت التحية على الايرانيين..
هكذا عززت إيران مرة أخرى معادلة الردع مع الكيان الصهيوني، وأعادت أمل الصمود والتحدي إلى محور المقاومة وجمهوره المتعطش للإنتصارات في ظل خذلان وتواطئ عدد من الأنظمة العربية والإسلامية في المنطقة، وكذا انخراط الجماعات التكفيرية وتيارات الإسلام السياسي في خدمة المشروع الصهيوأمريكي بالمنطقة عن قصد أو عن غير قصد.
حيث كرست الجمهورية الإسلامية أيضا التوصيف الدقيق للسيد الشهيد حسن نصر الله لهذا الكيان بأنه أوهن من بيت العنكبوت، وبأنه يعتمد في كل شيء على الغرب وأمريكا، الذين يهبون لنجدته كلما تورط في أمر أكبر من قدراته العسكرية، حيث يمدونه بأحدث الأسلحة وتكنولوجيا الحرب المتاحة، في الوقت الذي تصنع فيه إيران أسلحتها بنفسها رغم الحصار والعقوبات المفروضة.
وأخيرا وليس آخرا، فإن المواجهة مع العدو الصهيوني ومشاريعه المستمرة في تفكيك المنطقة والهيمنة على قرارات أنظمتها السيادية وثروات شعوبها المستضعفة، باتت تقتضي الدخول في تحالفات إقليمية ودولية جيواستراتيجية لمواجهة التحالف الدولي الغربي والإقليمي الذي يدعم هذا الكيان الذي لا يعدو في الواقع كونه قاعدة عسكرية متقدمة للغرب في الشرق الأوسط، كانت ولازالت تؤدي وظيفة استعمارية في قلب الأمة الإسلامية. وهو ما باتت تراهن عليه إيران مؤخرا من خلال انضمامها لعدد من الكيانات الاقتصادية القوية كمنظمة شانغهاي وتجمع البريكس فضلا عن الاتفاق الاستراتيجي مع الروس واتفاقية الدفاع المشترك مع كوريا الشمالية..ومؤخرا مساعي التقارب التي بدأت مع جمهورية مصر العربية في ظل الضغوطات المتزايدة للولايات المتحدة الامريكيه على القيادة في مصر من أجل توطين الغزاويين في سيناء..
لقد شكلت هذه الحرب منعطفا مفصليا جديدا في تاريخ المنطقة العربية الإسلامية ستكون له حتما مجموعة من النتائج والتداعيات المهمة، لعل من أبرزها إعادة تشكيل الوعي المقاوم داخل شعوب هذه المنطقة بعد عقود من التدجين وبث اليأس والإحباط وفق مخططات كانت ولازالت تقوم على إعداد الرأي العام العربي والإسلامي للتطبيع مع الكيان الصهيوني المحتل الذي تكشفت حقيقته الدموية في غزة. كما أسقط انخراط إيران الشيعية في نصرة غزة السنية عبر خلق جبهات لإسناد مقاومتها ضد المحتل، الورقة الطائفية التي يستثمرها العدو في كل محطة للتشويش على مساعي الوحدة والتقارب بين المسلمين وتوحيد الصفوف لمواجهة المخططات المشبوهة التي باتت تستهدف زعزعة استقرار الأوطان وتفكيك القوى الإقليمية التي تهدد أمن الكيان المحتل بالمنطقة وفق رؤية الغرب الإستعمارية. ولا زال الرهان مفتوحا على تجاوز هذا الخلاف الطائفي عبر بناء وعي منفتح على ثقافة الآخر المختلف وتاريخه مما يتحمل مسؤوليته العلماء والدعاة المنصفين بين الطرفين، وكذا المؤسسات الدينية الرسمية خاصة داخل العالم السني، والتي ظلت تتجاهل هذا الملف الحارق لعقود لأسباب سياسية بالأساس.

د. محمد أكديد
باحث في علم الاجتماع السياسي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى