أحمد رباص
ساهمت كلير باجيس، الأستاذة المحاضرة بجامعة فرانسوا رابلي (مدينة تور) ومديرة برنامج بالكوليج الدولي للفلسفة، في القراءة الجماعية لكتاب هيجل “فينومينولوجيا الروح”، وتكلفت بكتابة الفصل الثاني عشر وقد اختارت له كعنوان “الدين الطبيعي ودين الفن”، وخصصته بأكمله للفصل السابع من رائعة هيجل.
تقول باجيس إن الفصل السابع من كتاب “الفينومينولوجيا”، الذي يتناول الدين، يسبق ويُمهّد للفصل الثامن المخصص للمعرفة المطلقة. في الحقيقة، يُعرّف هيجل الدين بأنه “وعي بالجوهر المطلق بوجه عام” أو وعي ذاتي بالجوهر المطلق. من المؤكد أن هذا الجوهر ليس بعد في ذاته ولأجل ذاته، وفعاليته ليست حرة تماما، وما يزال الوعي الذاتي لهذه الروح بحاجة إلى تعميق.
إذا سمحت لحظات الدين الثلاث للروح، المتمركزة في وعيها الذاتي، بالانتقال إلى التحديد الكامل لذاتها في ذاتها ولأجل ذاتها، فإنها لم تبلغ بعد شكلها الكامل من هذا الوعي الذاتي. وحدها الروح المطلقة ستكون فعالية حرة واعية بذاتها. ومع ذلك، فإن الفن والدين والفلسفة، بحسب هيجل، لها نفس المحتوى وتختلف فقط في الشكل، بحيث أن الدين هو بالفعل عرض للمطلق، وطريقة للإمساك بالوجود-هنا وإعطائه بما يتوافق مع الروح: “الفلسفة لها نفس المحتوى ونفس الغاية مع الفن والدين؛ لكنها أعلى طريقة للإمساك بالفكرة المطلقة، لأن طريقتها هي الأعلى، المفهوم”.
من البديهي أن الفصل السابع يتبع الفصل السادس، الذي يتناول الروح، ويعزز نتائجه. الدين، سواء أكان طبيعيا أم جماليا أم مطلقا، هو نموذجي للوعي الذي يصنع الروح. أيا كان شكله، يوفر الدين للروح هيئة ذاتية تتعرف فيها على نفسها، بشكل أو بآخر، كجوهر مطلق. إنه يوفر لها معرفة ذاتية، ولكن في كل مرة في شكل تمثل، يحشد الطبيعة أو الفن أو حتى حياة المسيح للقيام بذلك؛ يجد هناك طريقة للتعبير عن الإله أو الإلهي.
دعونا نتذكر أنه يوجد لدى هيجل تاريخ للفن والدين منغمسين في تاريخ العالم، بقدر ما يمنح الفن والدين، إلى جانب الفلسفة، وعيهما الذاتي لكل عصر. ومن ثم، فإن الفصلين المتعلقين بـ”الروح” و”الدين” يتداخلان جزئياً من حيث الترتيب الزمني، ويعبران أحياناً عن وجهات نظر مختلفة حول نفس الفترة التاريخية، لكن منطقياً يسمح الدين للروح بالارتقاء إلى مستوى الوعي الذاتي، إلى معرفة ما هي في ذاتها ولأجل ذاتها، بحيث تقدم روح الدين قراءة أكثر ملاءمة للمجموع التاريخي.
يتطلب الدين حضورا مباشرا يبحث فيه الوعي الذاتي عن ذاته ويتعرف عليها، ومحتوى إيجابيا يُمثل فيه الجوهر المطلق، وحقيقة أن الوعي مُفترض في التحديد الجوهري للوعي بالذات.
يترتب على ذلك، من جهة، أن بعض الأشكال المميزة للوعي (وعي ما فوقحسي) والوعي الذاتؤ (الوعي الشقي)، وكذلك عالم الروح الأخلاقي (دين العالم السفلي؛ الإيمان بالقدر، بروح الميت؛ دين التنوير؛ ودين الأخلاق جزئيا)، إذا كانت تُقدم أوجه تشابه مع الدين، فإنها مع ذلك تتميز عنه لافتقارها إما إلى تجسيد المطلق أو إلى معرفة الذات.
يرى الوعي الشقي (الفصل الرابع) الروحَ المفردة وهي تستنزف نفسها في البحث الضائع عن ما وراءٍ تافه؛ أما أشكال “العقل” في الفصل الخامس، فهي تتناول الواقع المباشر ولا تُولي اهتماما لما فوق الحس. لا شك أن جدلية الروح (الفصل السادس) تمهد الطريق لتجلي الواقع المطلق، ولكن مملكة الإيمان التي حاربت ضدها حركة التنوير، والتي تم استحضارها في القسم الخاص بالثقافة، تظل بالنسبة لهيجل بمثابة هروب من العالم الفعلي.
من ناحية أخرى، يتميز الدين، بدرجات متفاوتة، باختلاف جوهري بين الوعي الذاتي والوجود-هنا، أو شكل الوجود المنوجد لأجل للروح، وبين تمثل الذات من قبل الروح وشكل الفعالية التي يتخذها هذا الدين، بحيث ينتهي عند تساوي الجانبين. ومع ذلك، يتفاقم هذا الانقسام إلى حد ما وفقا لشكل الدين المعني: يتحقق التوفيق بين هذين الجانبين في سياق التطور العام للدين، والذي يتضمن ثلاث لحظات أو ثلاث أشكال محددة، تُشكل اختلافات هذه الحركة. تُرتب الأشكاب الدينية على النحو التالي: “الفعالية الأولى” [die erste Wirklichkeit] التي تُضفيها الروح الدينية على نفسها، تُقدم شكلاً مباشرا أو طبيعيا (الدين الطبيعي)، والفعالية الثانية تُستمد من فعل وعي مُنتج يُدرك من خلاله الأخير ذاته ويُصبح ذاتا (دين الفن)، والفعالية الثالثة تُعزى إلى روح تُقدم نفسها في شكل وجود في ذاتها ولأجل ذاتها، مُمثلة كما هي. هذا الشكل “الحقيقي” للدين يسمى الدين الظاهر ولا يخضع إلا لشكل التمثل الذي سيتم تجاوزه في المفهوم (الفصل 8).
وهكذا، تُعيد جدلية الدين إلى الأذهان ثلاث أشكال محددة تنتمي إلى تاريخ الروح: فبينما تُشكّل أديان الطبيعة داخل الدين لحظة الوعي، فإن دين الفن هو لحظة وعي بالذات. فهو يرى الروح المطلقة تتجلى كوعي ديني يُصبح واعيا بذاته من خلال التمثيلات الفنية للإلهي التي تُنتجها الروح (تتجلى الروح لذاتها في شكل أعمال فنية)؛ أما الدين المطلق فيستأنف ويتولى حركة الفصلين المتعلقين بـ “العقل” و”الروح”، لأن الروح ستظهر فيهما كما هي في ذاتها ولذاتها، كوحدة بين الوعي والوعي الذاتي (تُدرك الروح في صورة المسيح الحقيقة الجوهرية والفعلية للمطلق). في هذا النص، سنقتصر على دراسة اللحظتين الأوليين.
(يتبع)