الأستاذة الدكتورة وسام علي الخالدي تكتب عن أعمال الأديب أحمد طايل (2-2)

في رواية “عيد ميلاد ميت”، تتجلّى الشخصيات بوصفها كائنات تعيش على حافة الفقد. الشخصية الرئيسة هنا لا تحتفل، بل تستحضر؛ لا تولد، بل تفتقد. والحدث ليس إلا ذريعة لفتح أبواب الذاكرة، حيث تتقاطع مشاعر الحب، والخذلان، والذنب، والحنين. إنها شخصية تتأمل الحياة من مشارف الموت، وتحاور الغياب كما لو كان حضورًا.
أما في رواية “شيء من بعيد ناداني”، فالشخصية الرئيسة تسير مدفوعة بنوع من النداء الغامض، وتبدو كما لو أنها تتحرّك في دوائر مغلقة، لا تبحث عن شيء بعينه بقدر ما تحاول أن تفهم ما الذي فاتها. هنا، اللايقين هو ما يحرّك السرد، والأسئلة هي ما يمنح الشخصية عمقها، لا الأجوبة. ولذا فهي شخصية مضطربة، هادئة المظهر، لكنها داخليًا مثقلة بالأصداء.
في “أيام بعيدة جدًا”، تأخذ الشخصيات طابعًا وجوديًا صريحًا؛ فكل شخصية تقريبًا تعاني من شرخ داخلي، وتشعر بأنها غريبة عن ذاتها وعن محيطها. التوتر بين الداخل والخارج، بين ما نعيشه وما نريده، هو ما يجعل هذه الشخصيات تحيا وتفكر وتتألم، ويمنح الرواية بعدها الفلسفي. حتى الشخصيات الثانوية تتماهى مع هذا القلق الوجودي، وتساهم في بناء مناخ سردي كثيف بالتساؤل والتأمل.
وتُجسّد رواية “الوقوف على عتبات الأمس” نموذجًا آخر لتلك الشخصيات التي تعيش على الحافة – حافة التذكّر، حافة القرار، حافة الانهيار أو النجاة. شخصيات ترفض النسيان لكنها تخافه، وتبحث عن بداية جديدة لكن دون يقين بأنها قادرة على المضي قدمًا. وهنا يتجلى الطابع الإنساني في أبسط تجلياته وأكثرها عمقًا: الخوف من الانفصال عن الماضي دون أن نجد بديلًا يبرر التخلّي عنه.
وفي “متتالية حياة”، تتبدى الشخصيات كأصوات منفصلة ومتداخلة في آن، تتحدث عن مقاطع من الحياة، لكنّها لا تصنع سيرة كاملة. كل مقطع يُظهر جانبًا من التمزق الداخلي، وكل صوت يبدو وكأنه جزء من كينونة أكبر لا تكتمل أبدًا. وهكذا تتحوّل الشخصيات إلى قطع فسيفساء إنسانية، تُظهر هشاشة التجربة الفردية وسط ضجيج العالم.
ما يُميّز هذه الشخصيات جميعًا:
وعيها الذاتي العالي: فهي شخصيات تفكر، تحاسب، وتتساءل.
ضعفها الوجودي النبيل: لا تبحث عن البطولة، بل عن النجاة.
انغماسها في التفاصيل الصغيرة: حيث يتحوّل الفنجان، والممر، والمقعد، إلى علامات رمزية تعبّر عن الداخل أكثر من الخارج.
نزعتها إلى الانسحاب والصمت: لا تُجاهر كثيرًا، لكنها تقول الكثير عبر ما لا يُقال.
شخصيات أحمد طايل إذًا ليست مجرد أدوات لتحريك السرد، بل هي السرد نفسه، هي الصوت الداخلي للعالم وهو يتأمل ذاته، ويعيد مساءلتها في مرآة الألم، والغياب، والحنين.
ولا تكتفي الشخصيات في أعمال أحمد طايل بتقديم صورة للانفصال الوجودي فقط، بل تتجاوز ذلك إلى البحث المستمر عن ذاتها وسط المتغيرات والعلاقات المتشابكة. ففي قلب كل شخصية، ثمة صراع داخلي بين ما هو مكتوم وما هو مرئي، بين ما تريده وما يُفرض عليها من واقع خارجي، وهذا الصراع هو الذي يُغذي الوعي الوجودي ويدفعها إلى التأسّل عبر السرد.
تظهر في كثير من الأحيان نزعة نحو الانعزال الطوعي، حيث تفضل الشخصيات الابتعاد عن الضوضاء الاجتماعية، والانكفاء على الذكرى أو التأمل، كوسيلة للحفاظ على توازنها النفسي. هذا الانسحاب لا يعني الضعف، بل هو تعبير عن قوة داخلية تمكّنها من مواجهة واقعها بعمق وصدق.
ومن اللافت أيضًا أن طايل يُعطي لشخصياته مساحات واسعة من الصمت والتأمل الداخلي، حيث يفتح لهم المجال ليكونوا رواة لأنفسهم، أو شهودًا على ما يمرون به دون الحاجة إلى الإفصاح المباشر. هذا الأسلوب يعكس فهمًا دقيقًا لتعقيدات النفس البشرية، ويرسخ فكرة أن الوجود هو حالة مستمرة من البحث، وليس حلماً يمكن تحقيقه.
في هذا السياق، نجد أن الشخصيات لا تسير وفق خط سردي مباشر، بل هي في حالة تفتّت نفسي وزمني، تعكس اضطراب الذات وعدم استقرارها. وهذا التفتّت يُبرز الطابع الحداثي في كتابة طايل، الذي يمزج بين الوعي الشخصي والتجربة الجماعية، بين الحكي الفردي والهمّ الإنساني العام.
في نهاية المطاف، تتحول شخصيات أحمد طايل إلى نماذج إنسانية تمثّل حالة القلق الوجودي والعزلة المعاصرة، لكنها في الوقت نفسه تحمل بذور الأمل والتمرد على حالة التيه، تسعى إلى تحقيق توازن بين الفقد والبحث، بين الصمت والكلام، وبين الانكسار والنهوض.
المحور الرابع: الزمن والمكان في سرديات أحمد طايل… بين التداخل والتشظي
يحتل الزمن والمكان موقعًا محوريًا في الروايات التي كتبها أحمد طايل، إذ لا يُعرضان فقط كإطار خارجي للأحداث، بل كمكونات عضوية متداخلة تُنسج منها بنية النص الروائي، وتتحكم في سيرته الدرامية ونسيجه النفسي. الزمن في أعماله ليس خطيًا منتظمًا، بل هو زمن متشظٍ ومتداخل، يتخطى حدود الماضي والحاضر ليخلق فضاء سرديًا متعدد الأبعاد.
في رواية “عيد ميلاد ميت”، يتبدى الزمن كحالة تعايش بين الموت والحياة، حيث يتجسد الماضي والحاضر في آن واحد، وتتداخل الذكريات مع اللحظة الراهنة، مما يعكس حالة نفسية لشخصيات الرواية التي تعيش تجاربها في لحظة حالية مشحونة بوزن ما مضى. هذا التداخل الزمني يخلق نوعًا من التشويش المتعمد، الذي يعكس طبيعة الذاكرة الإنسانية المتقطعة وغير المستقرة.
أما في رواية “الوقوف على عتبات الأمس”، فيبدو المكان كالمرآة التي تعكس الماضي بوضوح عميق، حيث العتبات ليست فقط حواجز مادية، بل هي رموز حدودية بين الحاضر والماضي، بين النسيان والتذكر، وبين التخلّي والتمسك. المكان هنا هو مشهد حياة تتكرر فيه اللحظات، لكنه في الوقت نفسه يحمل وعيًا زمنيًا متحركًا، يمنح السرد بعدًا نفسيًا يجعل القارئ يشعر بثقل اللحظة وكثافتها.
وفي رواية “أيام بعيدة جدًا”، يحضر المكان ككيان حي يتفاعل مع الشخصيات، ويعبّر عن حالتها النفسية، فهو ليس فقط فضاءً مكانيًا، بل رمزًا للحيرة والضياع والبحث عن الذات. الزمن هنا يكسر قواعده المعتادة، فالأحداث لا تُروى بترتيب زمني منطقي، بل تُعرض كقطع فسيفساء، تتداخل مع بعضها في تركيب سردي معقد.
وتتجلى هذه الخاصية بشكل لافت في رواية “متتالية حياة”، التي يبدو فيها الزمن كأنّه متتالية مشوهة من الذكريات والمشاعر، تُعيد تركيب الحياة بشكل متقطع وغير متسلسل، تعكس هشاشة وجود الشخصيات وارتباكها النفسي. هذا البناء السردي الذي يعتمد على التشظي، يجعل القارئ مشاركًا في عملية إعادة تركيب النص والمعنى.
يمكن القول إنَّ أحمد طايل يستثمر تشظي الزمن وتداخله مع المكان ليخلق تجربة سردية فريدة، تُحاكي الواقع الإنساني المعاصر بكل تعقيداته وصراعاته الداخلية. لا يُقدّم الزمن كخيط يربط بين الأحداث، بل كشبكة من اللحظات التي تتشابك لتشكل نسيجًا متداخلًا لا يمكن فصله بسهولة.
في هذا السياق، يصبح المكان أكثر من مجرد خلفية؛ فهو شاهد صامت على صراعات الشخصيات، ومرآة تعكس حيواتها الداخلية، وحاضنة للذاكرة والحنين. وكأن المكان والزمن في أعماله يشكلان وحدة عضوية متكاملة، لا تفترق ولا تُفهم إلا عبر تعايشها مع مشاعر وأفكار الشخصيات.
ولا يكتفي أحمد طايل بجعل الزمن والمكان عناصر سردية فحسب، بل يرفعهما إلى مستوى أبعاد وجودية تؤثر في تكوين الهوية والذات. فالزمان في نصوصه ليس فقط تسلسلاً للأحداث، بل هو حالة وجدانية يعبر عنها من خلال تكرار الذكريات، والوقوف المتكرر على لحظات مفصلية، والتمسك بلحظة غياب أبدية. هذه الحلقات الزمنية المتكررة تؤسس لحالة من الدورية التي تعكس صراع الشخصية بين رغبتها في التحرر والتمسك بماضيها.
أما المكان، فهو ليس مجرد فضاء جغرافي أو اجتماعي، بل هو مساحة ذاكرة وحضور نفسي، تتداخل فيها الحواس والمشاعر. في أعماله، تصبح المدينة، البيت، الشارع، وحتى العتبات التي يقف عليها الأبطال، رموزًا تعبيرية تعبّر عن حالة العزلة، الفقد، أو حتى الأمل.
فعلى سبيل المثال، في رواية “رأس مملوء حكايات”، يحضر المكان كحاضنة للتجربة الإنسانية، كما لو كان كائنًا حيًا يستوعب الأحزان والذكريات، ويحملها في صمته. هذه العلاقة بين المكان والذاكرة تعزز من التوتر النفسي وتعمّق من حضور الحنين.
ويبدو أن طايل يستثمر في الطبيعة المفتوحة والمتعددة الأبعاد للمكان، ليجعل منه فضاء سرديًا يحاكي حالة التمزق النفسي للشخصيات. فهو يحرص على استحضار تفاصيل دقيقة، أحيانًا رمزية، تُرشد القارئ إلى الحالة المزاجية والوجدانية للمشهد.
هذا الاستخدام العميق للزمان والمكان يعكس رؤية طايل للحياة بوصفها متداخلة، متشابكة، ومتراكمة، حيث لا يُمكن فصل تجربة الإنسان عن سياقها الزمني والمكاني، بل يشكّل هذا السياق جزءًا لا يتجزأ من تكوين الذات والهوية.
إنّ التداخل والتشظي في الزمن والمكان يفتحان أمام القارئ آفاقًا واسعة لفهم النص، إذ لا يُمكن القراءة السطحية أو الخطية أن تكشف كل ما تكتنز به أعمال طايل من معانٍ ودلالات. فالقراءة هنا تتطلب تأملاً متعمقًا، وانفتاحًا على تعدد الطبقات والتداخلات، حتى تتشكل صورة كاملة لهذا العالم الروائي المعقد.
المحور الخامس: تقنيات السرد والرمز في روايات أحمد طايل… أدوات بناء المعنى وتأويله
تُعدّ تقنيات السرد والرمز من الأعمدة الأساسية التي يرتكز عليها مشروع أحمد طايل الإبداعي، فهي الأدوات التي من خلالها يبني نصوصه ويُشكّل عبرها رؤيته الفنية والفكرية. إذ لا يقتصر السرد عنده على نقل الأحداث فحسب، بل يتحول إلى فضاء واسع يُجسد التوترات النفسية والوجودية، ويعكس تعقيدات الذات البشرية وتفاصيل تجربتها في عالم متغير ومتداخل الأبعاد. توظف أعمال طايل تقنيات سردية متطورة، منها التشظي الزمني، تعدد الأصوات، المونولوج الداخلي، الرموز المفتوحة، إلى جانب تكثيف اللغة وبنية النص المفتوحة، التي تخلق تجربة قراءة تأويلية غنية ومتعددة المستويات.
تتجلى تقنية التشظي الزمني بوضوح في رواية “عيد ميلاد ميت”، حيث ينسج طايل مشاهد الماضي والحاضر بطريقة متداخلة، تعكس اضطراب الشخصية وصراعها النفسي. يقول الكاتب:
“أتذكر ذلك اليوم كأنه وقع أمس، رغم أن سنوات مضت… واللحظة تختلط بصدى الذكرى، كأن الزمن يرفض الانصياع لقانونه.”
هذا التداخل يكسر التسلسل الزمني التقليدي، ويجعل الذكرى تعيش في الحاضر، مما يعمّق من إحساس القارئ بالزمن المتشابك ويبرز أثر الذاكرة على الواقع النفسي.
أما تعدد الأصوات، فيبرز جليًا في رواية “متتالية حياة”، حيث تتبادل الشخصيات السرد من خلال أصوات متعددة، فتتلاقى وجهات نظر مختلفة تعكس تعددية الخبرات الإنسانية. يعبّر أحد الشخصيات قائلاً:
“كل منا يرى الحياة من نافذته، لكن الحقيقة تتجاوز تلك النوافذ، تتشابك كما تشابكت حياتنا.”
هذا التنوع يثري النص ويمنحه غنى سرديًا يسمح للقارئ بالتفاعل مع أبعاد متعددة للواقع.
يُبرز المونولوج الداخلي عمق البُعد النفسي في رواية “شيء من بعيد ناداني”، حيث تخوض الشخصية الرئيسة حوارًا داخليًا مكثفًا يعكس صراعاتها الوجدانية. تقول الشخصية:
“كنت أبحث عن نفسي في الظلال، أحاور صمت قلبي، أتساءل: هل يمكن أن أتجاوز ألمي وأجد السلام؟”
هذا التأمل الذاتي يضيف عمقًا وجدانيًا ويكشف عن التوترات الداخلية التي تكمن خلف الأحداث السطحية.
تتجسد الرمزية بشكل واضح في رواية “الوقوف على عتبات الأمس”، حيث تمثل “العتبات” رمزًا لحواجز زمنية ونفسية بين الحاضر والماضي. يقول النص:
“وقفتُ على العتبة، أسمع صدى خطوات الماضي يتلاشى بين أصابع الزمن، فلا أملك أن أتقدم ولا أن أعود.”
تعبر هذه الصورة الرمزية عن حالة التردد والانتظار، وتعكس الصراع النفسي للذات مع الماضي والذاكرة.
يستثمر طايل الفراغات والسكتات السردية في رواية “رأس مملوء حكايات”، حيث يقدم نصوصًا مختصرة ومفتوحة، تترك للقارئ مساحة لملء الفجوات وتأويل المعاني، كما في العبارة:
“صمت… ثم حكاية لا تنتهي، لكنها تختبئ خلف الكلمات التي لم تُقل.”
هذا الأسلوب يعزز من تفاعل القارئ ويشركه في صناعة النص، مما يمنحه دورًا فاعلًا في العملية الإبداعية.
كما يتميز أسلوب طايل بالتكثيف اللغوي، كما في رواية “أيام بعيدة جدًا”، حيث نجد عبارات قصيرة لكنها مشحونة بالمعاني، مثل:
“وحيد، يقف في مواجهة الحياة التي تنكسر من حوله، دون أن يرحم.”
تعكس هذه الجملة بإيجاز مشاعر الوحدة والاغتراب، وتبرز براعة الكاتب في توظيف اللغة بكفاءة عالية.
تُختم أعمال طايل غالبًا ببنية سردية مفتوحة، لا تقدم إجابات قاطعة، بل تترك القارئ في حالة تأمل وتساؤل، كما يعبر الكاتب عن ذلك في نص يقول:
“ربما لا توجد نهايات، بل بداية أخرى للحكاية التي نعيشها.”
هذه النهايات المفتوحة تواكب رؤيته الفلسفية التي تعتبر الحياة سيرورة مستمرة من البحث والتساؤل، ولا شيء يكتمل نهائيًا.
من خلال هذه التقنيات، يتحول السرد في أعمال أحمد طايل إلى تجربة متعددة الأبعاد، تجمع بين الواقع والرمز، وبين الزمن والذات، لتقدم نصوصًا غنية ذات أفق إنساني وجودي عميق، تحث القارئ على التأمل والتفاعل، وتمنحه حرية في بناء المعنى واكتشافه.
إن تقنيات السرد والرمزية التي توظفها روايات أحمد طايل ليست مجرد أدوات شكلية، بل هي وسائل تعبير جوهرية تعكس فلسفته في النظر إلى الإنسان والحياة. فالتشظي الزمني، على سبيل المثال، لا يعبر فقط عن تعقيد الذاكرة، بل يرمز أيضًا إلى طبيعة الوجود الممزق بين ماضي مؤلم وحاضر غامض ومستقبل مجهول. وهذا ما يجعل القارئ يعيش حالة من عدم الاستقرار النفسي المعبر عنه في النص، كما في مشاهد كثيرة من “عيد ميلاد ميت”.
تعدد الأصوات والمونولوج الداخلي يوفّران كذلك نافذة فريدة على تعددية الذات وتناقضاتها، فكل شخصية تحمل رؤيتها الخاصة التي تتقاطع أحيانًا وتتصادم أحيانًا أخرى، ما يعكس التنوع والتعقيد في التجربة الإنسانية. ولا يكتفي طايل بهذا السرد المباشر، بل يستخدم الرموز المفتوحة التي تتجاوز الوصف السطحي لتصل إلى أبعاد فلسفية ونفسية عميقة، مثل العتبات التي تكررت في “الوقوف على عتبات الأمس” كرموز للحواجز النفسية التي تعترض سبيل الذات.
كما أن الفراغات والسكتات التي يتركها طايل في نصوصه ليست مجرد مساحات صمت، بل هي أفعال سردية تعزز من تفاعل القارئ وتمنحه دورًا في إكمال البناء النصي، وتسمح بالتأويل والتفكير الذاتي، ما يجعل النص مفتوحًا ومتجددًا مع كل قراءة.
في نهاية المطاف، تبرز براعة طايل في توظيف اللغة المختزلة القادرة على بث حياة كاملة في كلمات قليلة، ما يجعل كل جملة تحمل وزنًا ثقيلًا من المعاني، وكأنها رسالة موجزة إلى القارئ، تحمل في طياتها إحساسًا بالوحدة، الحزن، والأمل المتجدد.
هكذا، نصل إلى فهم أن السرد في أعمال أحمد طايل هو بمثابة رحلة تأملية في ذات الإنسان، تحملها رموز متداخلة ولغة حية تشتغل على إبراز تعقيدات الوعي البشري. وهذه الرحلة التي يطويها القارئ ليست مجرد قراءة سردية عابرة، بل هي تجربة وجودية تفتح أبوابًا للفهم الأعمق للذات والعالم، مما يجعل نصوص طايل ليست فقط أعمالًا فنية، بل دعوات مستمرة للحوار مع الحياة بكل أبعادها.
واخيرا وفي خضم عالم السرد العربي المعاصر، يبرز أحمد طايل كواحد من الأصوات التي تكتب بفنّ وإحساس عميق، مستنيرة بوعي إنساني وجودي، تتجاوز حدود الحكي التقليدي لتشكل تجربة سردية تأملية تتنفس عبر لغتها الرمزية وتقنياتها الإبداعية.
لقد أظهرت هذه الدراسة أن مشروع طايل الإبداعي هو رحلة مستمرة في استكشاف الذات والعالم، حيث تتشابك أبعاد الزمن والمكان، وتتناغم الأصوات لتروي قصصًا لا تكتفي بوصف الواقع، بل تغوص في أعماق النفس البشرية، في محاولات دؤوبة لفهم الألم، الفقد، الذاكرة، والحنين.
يتميّز نص طايل بقدرته على تحويل الكلمات إلى بوابات تُفتح أمام القارئ ليخوض تجربة قراءة ذاتية، تنبض بالتأمل والتفاعل، حيث يُترك للمساحات الصامتة والرموز مفتاح تفسير لا نهائي، يمكّن كل قارئ من أن يجد في النص مرآة خاصة تعكس تجربته الإنسانية.
من ذلك، قد نتأدى إلى أنّ إبداع أحمد طايل ليس مجرد سرد للأحداث، بل صورة حيّة من حالات الوجود، مكتوبة بلغة تختزل الألم والجمال، وتحتفي بالغموض والتشظي، لتقدم نصًا روائيًا غنيًا ومتعدد الأوجه، يُثري الأدب العربي المعاصر ويُحفّز على التأمل والتجديد.
إنّ متابعة قراءة نصوصه ودراستها تعني الانخراط في حوار متجدد مع الذات والآخر، واستكشاف لآفاق سردية تمزج بين الوجداني والفلسفي، وتقدم نموذجًا راقياً للإبداع الذي يَحمل الهمّ الإنساني في أبهى صوره.
إن مشروع أحمد طايل الإبداعي، بما يحمله من أبعاد سردية وجمالية، يُعدُّ إضافة نوعية مهمة إلى فضاء الرواية العربية المعاصرة، إذ يُجسد تجربة فنية ذات خصوصية عالية تجمع بين العمق النفسي، والرمزية الغنية، والأسلوب الحداثي، ليخلق نصوصًا تنطق بحكايات الإنسان في زمن التشظي والانفصال.
ولا شك أن دراسة هذه النصوص تسهم في فهم أعمق لقضايا الإنسان المعاصر، وتفتح آفاقًا بحثية جديدة في النقد الأدبي، خاصة فيما يتعلق بتقنيات السرد الحديثة، وتأويل الرموز، والبحث في الوعي الذاتي والوجودي داخل الرواية.
ختامًا، تبقى أعمال أحمد طايل دعوة مفتوحة لكل قارئ وناقد لأن يغوص في عالمه الخاص، ويُبحر في نصوصه التي تُشبه مرآة تتكسر فيها الأزمان والأمكنة، لتعيد تكوين صورة الإنسان كما هي بحيرته، تمرده، وأمله الدائم في حياة أفضل.