إن علوم الرياضيات والفيزياء والطب لا تحتاج إلى الإيديلوجيات . أو إبداء المواقف . أوالإنحياز إما مع أوضد لأنها تخضع لقواعد ،وتجارب ، ومختبرات صارمة وموضوعية . وذلك ما يجعلها بعيدة عن أهواء ومصالح الناس الشخصية ، لأن نتائجها تكون علمية ، عامة ، مجردة ، منفلثة ومتمردة على المصالح الطبقية والفئوية . وذلك ما يجنبها الإحتكار من طرف هذه الطبقة أو تلك . أو تكون لهذا الشعب دون ذاك .إن تراكم إنتاج الرياضيات والفيزياء والإبتكارات الطبية كان( وسيكون) ملكا للبشرية جمعاء عبر التاريخ .. و هنا بالذات يكون العلم (للعلم ) في خدمة الإنسان (بآستتناء علوم الذرة ذات العلاقة بالسلاح النووي الفتاك) .فكبار الرياضيين والفزيائيين وعلماء الطب أنتجوا عبر العصور ولا زالوا ينتجون للبشرية جمعاء وليس لطبقة او فيئة محددة ..عكس ماكيافيل الذي نظر للأمير .أو الفشتالي الذي كتب لأحمد المنصور الذهبي أو ماركس الذي نظر للطبقة العاملة . أو نوال السعداوي التي أفنت عمرها كله في الدفاع عن قضايا المرأة (مثلا .).
أما الآداب والفنون والفكر و العلوم الإجتماعية بآختلاف مجالاتها وتنوع حقولها فإنها تبقى خاضعة لرؤية الشاعر والروائي والفيلسوف وعالم الإجتماع والمؤرخ والفنان وغيرهم . لذلك نرى التقاطب حول الافكار والتدافع لا يكون في السياسة وحدها ، بل نجده محتدما كذلك في إنتاج الأفكار والنظريات و أجناس الأداب في تقابلاتها إلخ .إن المثقف عندما يكتب في زاوية من زوايا الثقافة في شموليتها يجد نفسه مشدودا( أحب ام كره،) لبوصلة تقوده في تفكيره و إنتاجه . وإلا كنا سنرى معشر المثقفين كلهم على ملة واحدة يكررون بعضهم بعضا في الرواية وعلم الإجتماع والشعر والأفكار !!..إن المثقف إبن المجتمع يعيش فيه بكل تناقضاته وصراعاته الإقتصادية والإجتماعية والسياسية والثقافية .ويتفاعل معها . ومن تم يجد نفسه مدفوعا إلى الإنحياز لهنا أو هناك بناء على ما تراكم لديه من تجارب وقناعات ومبادئ. ففي المغرب مثلا خلال العقود الأربعة ما بعد 1956 كانت نسب عالية من الفلاسفة والشعراء والادباء والمفكرون والفنانون والمؤرخون كسروا أطروحة حيادية المثقف . لذلك نجد الأحزاب الوطنية واليسارية ومجموعات اليسار الجديد كانت تعج بالمآت منهم . وكان كل واحد منهم ينتمي للهيئة التي يراها قريبة من قناعاته . . وكانت تلك الإنتماءات حاسمة في خلق ذلك الزخم الثقافي الباهر في الجامعات و الجمعيات والأحزاب . وكان الوعي الثقافي والسياسي بفضلها متقدما جدا مس حتى الفيئات التي كانت لا تملك من الثقافة سوى النزر القليل عكس ما نعيشه اليوم من آنتشار للتفاهة وشيوع للرداءة على نطاق واسع .
إن المثقف الذي يكتب بدون بوصلة( كيف ما كان نوعها وآتجاهها ) ، وبدون آنحياز يتيه ويكون كمن يضرب بسيفه في الماء .و حينها يكون لا هو أفاد الثقافة ( كمفهوم شامل) ولا أفاد المجتمع .. إن عالم الإجتماع أو الروائي أو المفكر أوغيرهم لا يكتب للجنس الذي هو متخصص فيه . بل، يكتب للمجتمع من أجل تثقيفه و الإرتقاء به وبوعيه. إن الفن ليس للفن . والثقافة ليست للثقافة . وعلم الإجتماع ليس لعلم الإجتماع إلخ بل هم كلهم للمجتمع .وإن لم يكونوا كذلك فلا داعي لهم بالمرة. إن من يقول بالحياد بين الذات (المثقف) والمحيط (قضايا المجتمع) بذريعة ان ذلك سيكون إنتصارا للعلم أخاله كمن يريد أن يجرد الجسد من العقل والقلب .. فهل يمكن للجسد ان ينهض بدون هذين العضويين الحيوين ؟؟!!.. بمعنى هل سينجح المثقف في اداء مهمته النبيلة إن هو كتب دون الإنصات لنبضات قلب المجتمع الذي يعيش فيه ؟ !..
صلاح الرواضي