ثقافة و فن

المحلي بوصفه أفقا للكوني في رواية خط الزناتي لشعيب حليفي- عبد الرحيم التدلاوي

لا شك أن العمل الروائي المتجذّر في تربته المحلية هو الأقدر على ملامسة جوهر الإنسان، لا من خلال تعميم المجرد، بل عبر تكثيف الجزئي، والتقاط التفاصيل الصغيرة التي تشكّل نسيج اليومي وتكشِف عن عمق الكينونة. فالمحلي، بما يحمله من نكهة بيئية، وثقافية، ولسانية، لا يُعدّ قيدًا أو عائقًا أمام الكونية، بل هو أحد مفاتيحها الخصبة. إنّ الأثر الإنساني لا ينبع من التجرّد عن السياق، بل من معانقة ذلك الشرط الوجودي الذي يحياه الإنسان ضمن بيئته الخاصة، بلغته، وذاكرته، وعلاقاته، وتفاعله مع تحوّلات الواقع.
إن الرواية، حين تكون صادقة في محليتها، تُصبح قادرة على اختراق المسافات، والوصول إلى وجدان قارئ في أقصى نقطة على الكوكب. لأنها لا تسعى إلى “تصدير” صورة مصطنعة، بل تعرض نبضًا بشريًا ينبثق من الواقع ويُضيء جوانبه الغامضة. فكل كتابة مشبعة بالروح المحلية، الموشومة بلغة المكان وتاريخه ومخياله، تُسهم في صياغة الوعي الكوني، وتمنح الفعل الإبداعي بعدًا إنسانيًا مشتركًا، حيث يلتقي الكُتّاب، على اختلاف مشاربهم، عند نقطة جوهرية: الإنسان في مواجهته للزمن، للسلطة، للذاكرة، وللمعنى.
ومن هذا المنطلق، لا يشذّ الكاتب المغربي شعيب حليفي عن هذا التصور، بل يعمّقه في روايته خط الزناتي، حيث يستنبت المحلي استنباتًا سرديًا، يجعل من كل مكوّن في العمل – العنوان، الشخصيات، الأمكنة، اللغة – مفتاحًا لقراءة الواقع المغربي، دون أن يغفل بعده الإنساني الواسع.
يكفي أن نتوقف عند العنوان: خط الزناتي، لندرك هذا التوجّه. فالـ”زناتي” ليس فقط اسمًا يحيل على بعد إثني وتاريخي محلي، بل يحمل في طيّاته ذاكرة جمعية مغربية، ووقعًا ثقافيًا لا يمكن فصله عن سياقه الجغرافي والتاريخي، بما فيه من إحالات إلى القبائل، والتحولات المجتمعية، وصراع الهوية. وهو عنوان يُقحم القارئ منذ البدء في عالم رمزي مفعم بالتاريخ الشعبي والمخيال الجمعي، حيث تتلاقح الأسطورة بالحياة اليومية، ويصبح الموروث وسيلة لرؤية المستقبل.
ثم تأتي الشخصيات، بأسمائها المحمّلة برائحة التراب، ولهجتها الدارجة، وقلقها المنبثق من واقعها، لتُعمّق هذا التجذّر وتجعله مادة خامًا للحفر في الأسئلة الكبرى التي يتقاطع فيها المحلي بالكوني: من نحن؟ كيف نحيا؟ ما الذي نُخفيه؟ وما الذي ننساه؟
لقد قدّم حليفي طيفًا من الأسماء المغربية القُحّة، من ألقاب وصفات وأمثلة تنبض بلسان العامة، تميل أحيانًا إلى السخرية أو التحبيب، كما هو الحال مع صفة “الكرطيط” التي تُستمد من عالم الحيوان وتعكس بنية رمزية تحقيرية لمن ينقصه شيء في الجسد أو القيمة. ولا يتوقف الحضور المحلي عند الأسماء والصفات، بل يتجاوزها إلى عادات اللباس والطعام، وهما عنصران يشكّلان في الرواية روابط جماعية وثقافية. فتناول الكسكس أو الرفيسة ليس مجرد فعل غذائي، بل فعل اجتماعي وثقافي يرسّخ الروابط بين الأفراد ويُعيد إنتاج القيم الجمعية داخل النص. ويورد السارد هذه المظاهر في مواضع عدة من الرواية: ص 12، 39، 82، 98 بالنسبة للطعام، و83، 87 بالنسبة للباس، ما يُدلل على حضورها الرمزي لا العرضي.
ولا ينفصل الرقص والغناء عن هذين العنصرين، إذ يُستدعيان في لحظات الجماعة كأشكال من التعبير والتفريغ والاحتفال. كما تحضر البرامج الإذاعية المغربية، مثل برنامج محمد معتوق أو مومو، بوصفها وسائط تُشارك في التكوين الرمزي والاجتماعي للشخصيات، بل تُحدث أثرًا فعليًا في مساراتهم العاطفية والوجدانية، كما حدث مع الحيمر حين خذلته معشوقته في برنامج إذاعي مباشر.
وتتعمّق هذه المحلية من خلال جغرافيا الرواية، إذ تدور أحداثها في البادية المغربية، منذ لحظة انتهاء موسم الحصاد حتى ليل الاحتفال بإنجازه. هذه الإطار الزمني والمكاني لا يُستحضر بوصفه خلفية ساكنة، بل ككائن حي ينبض بكل تفصيل من تفاصيله: التراب، الشجر، الحشرات، الحيوانات، الطيور… عناصر تُستثمر في مستوياتها الواقعية والرمزية والمجالية، لتصوغ رؤية للعالم تنبني على حاجة الإنسان إلى الإصغاء لما حوله، كما ترى الباحثة سلوى براهمة، والانتباه إلى ما يغيب وراء المألوف، في مسعى لبلوغ نوع من السمو الروحي. فالوعي بالبيئة في هذه الرواية ليس مجرد نزعة وصفية، بل هو أحد أركان البنية الرمزية التي تتقاطع فيها ثنائية الإنسان والزمن: الكائن المحدود في مواجهة الزمن المفتوح، الكائن المتغيّر في قلب الطبيعة المتجدّدة.
من هذا المنظور، يغدو الزمن نفسه تيمة محورية في الرواية، لا كمجرّد إطار، بل كقوة مهيمنة، تسائل الإنسان في محدوديته وهشاشته. يتداخل الزمن الحاضر بالزمن الغيبي، وتنهض الرواية على نوع من التوجّس من الزمن المستقبلي أو “الجيل الخفي”، بما يحمله من غموض يستدعي استحضار أدوات المخيال الشعبي من مثل “الخط الزناتي” أو “الدمياطي”، وهي طقوس ذات جذور ضاربة في الثقافة المغربية، تُمارس لا لقراءة الطالع فقط، بل لفهم ما لا يُقال.
وقد عبّر حليفي نفسه عن قناعته العميقة بجذور هذه الثقافة الشعبية، قائلاً: “ليس من حقنا أن ننكر بأن هذه ثقافة شعبية متجذرة في مجتمعنا، وتعبر عن عدد كبير من الأفكار والأحلام التي نحملها”. بل يرى أن دور الكاتب ليس أن ينعزل عن هذه الذاكرة الجمعية، بل أن يكون صوتًا حيًّا للمجتمع، جزءًا من ناسه، يعبّر عنهم، يحاورهم، يشاركهم همومهم، لأن “أهم ما فينا هو روحنا… ونحن نكتب لنصون أرواحنا، لا لننتظر أن يكتب عنا الآخرون”.
بهذا التصور، تتحول الرواية عند حليفي إلى فعل مقاومة ضد التشييء وضد التبعية الثقافية. فهي ليست “بهرجة” أو “تمثيلًا لحرارة ثقافة أخرى”، بل هي امتداد لحكاياتنا وأساطيرنا وملاحمنا، حيث تُصبح الانكسارات سُحبًا عابرة، لا لحظات ندب دائم. في هذا السياق، تتجاوز الرواية التدوين إلى أن تكون بحثًا ومعرفة بالنفس البشرية، نابعة من جذورنا، لا من قوالب مستوردة.
وفي أفق هذا التفاعل المتكامل بين المحلي والرمزي، بين التاريخي والبيئي، بين الزمني والروحي، تبرهن خط الزناتي على أن الكتابة المتجذّرة في تربتها هي الأقدر على مخاطبة الإنسان في أي مكان وزمان. لأن تجذرها هو تعبير صادق عن إنسانها الذي يعيش في بيئته المختلفة، ويحمل قيما متفردة، ورؤية مستمدة من خلفيته الاجتماعية والدينية والثقافية. وهو تعبير، في جوهره، يتقاطع مع تعبير الإنسان في كل مكان عن توقه للحرية والعدالة والكرامة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى