ثقافة و فن

كلير باجيس: الدين الطبيعي ودين الفن (الجزء الثالث)

أحمد رباص
الدين الطبيعي
كل دين مفرد فعال إلا ويقدم تنوعا من الأشكال، كما أن متوالية وحركة الديانات المختلفة موجودة في كل لحظة من لحظات الدين؛ ولا يقل عن ذلك صحة أن كل لحظة من لحظاته تمتلك حقيقتها في اللحظة التالية التي تدرك فيه التحديد الحقيقي لموضوعها، ومن ناحية أخرى فإن دينا واحدا يختلف عن دين آخر وفقا للطريقة التي يتم بها تحديد الشكل الذي تعرف به الروح أو تتعرف على نفسها.
يجب تسمية أقدم الأديان بأديان الطبيعة – لأن الإلهي يُمثَّل بالكائنات أو العناصر الطبيعية – والسحر هو أولها، مع أن كتاب “الفينومينولوجيا” لا يذكره مباشرةً . في أحدث أشكال الدين الطبيعي، يهيمن الموضوع وتشعر الروح بالانسحاق عند مواجهته. في الواقع، يتضمن الدين الطبيعي، كعمله، الذي ينتجه الحرفيون، مزيجا من الأشكال (عمل تركيبي) غير مناسب للتعبير عن المحتوى الروحي. يتخذ الإلهي، على سبيل المثال، شكل حيوان (عنصر طبيعي) وتُؤلَّه العناصر الطبيعية. في التاريخ، هذه الديانات الطبيعية هي، بالنسبة لهيجل، ديانات النور (زرادشت وبلاد فارس القديمة)، والنباتات والحيوانات، أي الطواطم النباتية أو الحيوانية، الديانات الأولى في الهند (وحدة الوجود بمعنى أن الأشياء المحدودة يتم تماهيها بالإلهي)، وأخيرا دين بناة الأهرامات والمسلات (دين الحرفيين)، التي هي إنتاج المعلم الحرفي للوقائع الخارجية (بالإضافة إلى الأهرامات والمسلات، والكتابات الهيروغليفية المنقوشة عليها) والتي لا تتلقى حيويتها، في عالم مصر القديمة، إلا من الوعي الذي يقدسها.
تُنتج أديان الطبيعة ما تُسميه “محاضرات في علم الجمال” (الجزء الثاني، القسم الأول) فنا رمزيا. علاوة على ذلك، لا يُنتج العمل بوعي كامل بالقيام بنشاط حر، بل غريزيا. تنغمس الروح في الطبيعة، فتظهر لنفسها، مثلا، كضوء الشمس. هذا اليقين الحسي الذي تمتلكه الروح عن ذاتها يُشكل رمزا لها، ولكنه رمز ناقص. من المؤكد أنها تُدرك نفسها كروح مطلقة في شكلها المباشر (النور، الحياة الحيوانية، إلخ..)، لكنها لا تستطيع أن تُدرك نفسها حقا في هذا الشكل المباشر من الوجود.
أول الأديان الطبيعية (“وجود-ماهية للنور”) يُقدّم للروح صورةً تجريدية: هذه الروح تُدرك ذاتها في صورة الوجود، وفي صورة كائنٍ مُفعَمٍ بمفهوم الروح. هنا، بالنسبة إلى هيجل، لدينا شكلٌ دينيٌّ من اليقين الحسّي. إنه دين النور، الذي يجعل وجوده المباشر المختفي، مع ذلك، الذات في مواجهة نقص في الاتساق يُضاهي نقصا في الإحساس.
الشكل الثاني من الدين الطبيعي (“النبات والحيوان”) يُقدم صورة دينية للإدراك، حيث تُدرك الروح نفسها بنشاط في أشياء قابلة للتحديد أو مُحددة. يُشير هيجل هنا إلى أشكال مختلفة من وحدة الوجود، إذ تجد الروح نفسها مُمثلة في أرواح مُتنوعة، أرواح نباتية (دين الزهور، مثل اللوتس أو زنبق الماء، في الهندوسية)، ثم حيوانات. إذا وُجدت الروح، فهي مع ذلك مُنتشرة، ويندمج الوعي الذاتي الفعال لهذه الروح مع أرواح بشرية مُفردة في صراع مع بعضها البعض. لذا، يفتقر هذا التدين إلى أي شكل من أشكال الكونية. لكن هذا التنافس بين طواطم النبات والحيوان، إلخ..، سيُفسح المجال لتحقيق موضوع، لفعل إيجابي، لإنتاج تمثيل، بدلاً من هذا الفعل السلبي.
إذا رسم هيجل صورة قاتمة للغاية عن الأشكال القديمة لوحدة الوجود هنا، فسيكون أكثر دقة في ” فلسفة الروح” عندما ينتقد الاتهام المزدوج بالإلحاد ووحدة الوجود المُوجه للفلسفة. سنجد هناك فكرة أن الله مجرد وعام لدرجة أن التحديد يقع على جانب أشياء العالم، بحيث يمكن لجميع الأشياء التجريبية دون تمييز أن تقدم جوهرا إلهيا (الموسوعة، الجزء III ، الفقرة 573، ص: 364).
ومع ذلك، سيعفي هيجل وحدات الوجود القديمة (يذكر من بين آخرين الشعراء الشرقيين، وخاصة الهنود، وخاصة خطب كريشنا) من لوم الخلط بين الوجودات الخارجية غير الجوهرية والوجود الجوهري في وسطها. سيؤكد أيضًا على وحدات الوجود الإيليتية والسبينوزية ليس فقط أنها لا تحدد الله بالعالم ولكن أنها لا تحدده (انظر أيضا (الموسوعة، الجزء I، الفقرة 50).
الشكل الثالث من الدين الطبيعي (“البنّاء الماهر”) يرى الروح تُنتج شيئا تحاول من خلاله أن تُدرك ذاتها. تُعيق هذه المحاولة كونها عملا غريزيا من جانب البنّاء الماهر ( الصانع )، الذي يُشكّله، فضلًا عن تجريد شكل هذا الشيء، ولذلك يُشكّل هذا الدين الطبيعي رمزًا دينيا للفهم. تُنتج الروح سلسلة من الأشكال الوحشية غير المتناسبة، التي ستبقى خالية من الوعي، مثل صخور الأهرامات والمسلات المنحوتة. وبسبب طابعها التجريدي، لا تستطيع هذه الأشكال إدراك معنى الروح (كونها ذاتا روحية)، فتظل الروح غريبة عن الشكل الذي يأويها ببساطة. هذا بالنسبة إليها مجرد ثوب، “مسكن مُغلّف”.
عندما يُحاول البنّاء الماهر أن يُضفي على الشكل الذي يُنتجه مزيدا من الروح، يُضيف استدارة الحياة النباتية كزينة، مما يُؤدي إلى بناء أكثر حرية. ثم يلجأ إلى الشكل الحيواني، وتحديدا في الهيروغليفية. لكن الشيء المُنتَج لا يزال يفتقر إلى “معنى داخلي”. يفتقر هذا العمل إلى اللغة، أي إلى روح تنبع من الداخل. يُنتج هذا البنّاء الماهر تماثيل – تماثيل المصريين – لكنها، على عكس التماثيل اليونانية، تبقى غامضة، إذ يُخفي وجودها-هنا باطنا لا يمثلها. إنها ليست لغة.
تبدو أشكال هذا الدين الطبيعي، في سياق ” ظاهريات الروح” ، متسمة بعدم ملاءمة أسلوب دلالتها لما يُدلل عليه هناك، وبعجزها عن الوصول إلى شكل اللغة. وسوف نلاحظ أن موقف هيجل هنا يختلف عن الموقف الذي سيكون عليه في “علم النفس” في الموسوعة حيث سيعمل الهرم كتمثيل صحيح لمفهوم العلامة، المفهوم كحدس يمتلك في حد ذاته، مثل روحه، معناه، وهو حدس يشير في نفس الوقت إلى شيء آخر غير نفسه: العلامة هي “الهرم الذي انتقلت إليه روح أجنبية وحُفظت فيه” ( Enc. III ، § 458، ص 253) 7 .
عندما يُضفي البنّاء المُحنّك على عمله طابعًا روحيًا يمتزج فيه الشكل والمعنى، تظهر الروح الفنية. ولكن عندما يقول هيجل إن دين الفن لا يشمل الحرفيين أو البنّائين المُحنّكين، بل يشمل “الفنانين” – وهو مصطلح غير مُوفق لأن هيجل يتحدث عن “عمال روحيين” ( geistiger Arbeiter ) – وأبطال مُدركين لأنفسهم ولطبيعة نشاطهم (الخلق، والتأمل)، وعندما يكتب أن “الروح فنان ” ( der Geist ist Künstler ) في دين الفن، فإن ذلك يُثير الذات التي تُدرك جوهرها المُطلق وتُنتجه في العمل. وهذه الذات ليست روح الفنان المُفردة (لسنا في عصر العباقرة الرومانسيين)، بل روح جماعة فعّالة ترى في العمل إبداعها الخاص، تعبيرًا عن الروح الكونية، أو حتى جزءًا من انسجام المدينة.
(يتبع)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى