افتتاحية

هل يعيد مشروع قانون المجلس الوطني للصحافة تنظيم المهنة أم يُمهد لشرعنة الهيمنة والإقصاء؟

تمثيلية غير متوازنة، تغوّل اقتصادي، إقصاء للنقابات، وتقييد للحريات… مشروع قانون 26.25 يضع التنظيم الذاتي للصحافة المغربية على المحك.

عزيز الحنبلي -تنوير
صادق مجلس الحكومة مؤخراً على مشروع قانون رقم 26.25 المتعلق بإعادة تنظيم المجلس الوطني للصحافة، وهو نصّ تشريعي جاء في توقيت حساس يمر فيه قطاع الصحافة المغربي بتحديات مهنية واقتصادية وأخلاقية عميقة. في الظاهر، يبدو المشروع خطوة إصلاحية تهدف إلى تعزيز الاستقلالية والتنظيم الذاتي للمهنة. لكن التمحيص في تفاصيله يكشف عن أسئلة مقلقة تتعلق بتمثيلية الجسم الصحفي، واستمرار هيمنة منطق “التحكم المؤسساتي” على قطاع يفترض أن يكون حراً ومستقلا.
ينص مشروع القانون على تقليص عدد أعضاء المجلس من 21 إلى 17 عضواً، وتوزيعهم بين الصحافيين المهنيين، والناشرين، وممثلي مؤسسات دستورية. إلا أن غياب أي إشارة واضحة إلى تمثيلية النقابة الوطنية للصحافة المغربية، أو إلى آلية دقيقة تضمن تمثيل الصحافيين بشكل ديمقراطي حقيقي، يفتح الباب أمام تهميش الفاعلين النقابيين، بل وقد يُستخدم لتصفية الحسابات داخل الحقل المهني.
الشرط الجديد الذي يحدد أقدمية الترشح في عشر سنوات يهدف ـ نظرياً ـ إلى توسيع قاعدة المشاركة. لكن التجربة المغربية علمتنا أن القانون في النص لا يعني بالضرورة القانون في الواقع، خاصة إذا لم تُقرَن هذه التعديلات بضمانات عملية ضد الإقصاء، وضد التلاعب بلوائح المهنيين.كما أن هذا الشرط قد يُقصي عدداً من الصحافيين الشباب والكفاءات المهنية الواعدة، الذين لم يُتح لهم بعد استكمال عشر سنوات من العمل، لكنهم يشكلون طاقة ضرورية لأي تجديد فعلي داخل القطاع.
من بين الفقرات التي تثير الانتباه، تلك المتعلقة بتمثيلية الناشرين، والتي تربط التمثيل بعدد العاملين ورقم المعاملات. هذه المعايير الاقتصادية تُقصي تلقائياً الصحافة المستقلة أو الصغيرة، وتفتح الطريق أمام احتكار التمثيلية من طرف المجموعات الإعلامية الكبرى المتحالفة مع السلطة والمال، من قبيل “ماروك سوار” و”إيكوميديا” و”كاركتير ميديا غروب”… وهو أمر لا يمكن اعتباره بريئاً في ظرفية سياسية تعرف فيها حرية التعبير تراجعاً ملحوظاً. إن اعتماد معيار الكم المالي بدل الجودة المهنية أو التعدد التحريري، يعكس توجهاً يخلط بين منطق السوق ومنطق الوظيفة المجتمعية للصحافة.
وفي هذا السياق، يُثير المشروع عدة نقاط مثيرة للجدل، أبرزها اعتماد “الانتداب” لفئة الناشرين مقابل “الانتخاب” لفئة الصحفيين، ما اعتبرته الفيدرالية “تمييزًا غير دستوريً” يهدد استقلالية المجلس ويقوض مفهوم التنظيم الذاتي للمهنة. كما يُمنح بعض الناشرين إمكانية التوفر على عشرين صوتًا بناءً على رقم المعاملات، وهو ما اعتُبر “مقدمة لاحتكار القرار وتكريس الهيمنة والتغول الإعلامي”، وسط تحذيرات من تداعيات ذلك على التعددية الإعلامية بالمغرب.
ومن بين الملاحظات المثارة أيضًا: ترك الانتخابات مفتوحة دون تحديد أصناف الصحافيين (مكتوب، سمعي بصري، وكالة)، واحتفاظ الناشرين برئاسة لجنة المقاولة، وسحب رئاسة لجنة بطاقة الصحافة من الصحفيين. كما يُسجل المشروع إدخال عقوبات جديدة ضمن اختصاصات المجلس مثل توقيف الصحف، والسعي لجعل التحكيم في نزاعات الشغل جبريًا بدلًا من طابعه الاتفاقي، مع إلغاء مبدأ التداول على رئاسة المجلس، ورفع مدة الولاية من أربع إلى خمس سنوات.
ومع غياب التوازن في تمثيلية مختلف مكونات الحقل الصحافي، يتحول المجلس الوطني من هيئة مستقلة لتنظيم المهنة إلى جهاز فوقي لتقنين النفوذ، بدل تقنين المهنة.
من المفارقات المثيرة في المشروع، التنصيص على إحداث “لجنة خاصة” لتسيير المجلس في حالة تعذر تشكيله. قد يبدو ذلك حلاً تنظيمياً معقولاً، لكن في السياق السياسي والإداري المغربي، فإن هذا يعني عملياً أن المجلس قد يصبح رهينة لهذه اللجنة المؤقتة، التي قد تُمدد مهامها إلى ما لا نهاية، كما جرى مع تجارب مؤقتة سابقة تحولت إلى مؤسسات فعلية. وهذا يطرح تساؤلات حول من يختار هذه اللجنة، ومن يراقبها، وما مدى مشروعية قراراتها، ومدى شفافيتها.
الأعضاء الثلاثة الذين سيتم تعيينهم من قبل مؤسسات دستورية ـ كالمجلس الأعلى للسلطة القضائية والمجلس الوطني لحقوق الإنسان ـ يُطرح حول دورهم سؤال جوهري: ما علاقتهم بتنظيم الصحافة؟ وماذا أضافوا فعلاً للمجلس في السابق؟ أم أن وجودهم لا يتعدى كونه وظيفة صورية تصرف لها تعويضات؟وإذا كانت الصحافة سلطة رابعة، فهل من المنطقي أن يتم تأطيرها من قبل سلطات أخرى غير خاضعة لنفس منطق المحاسبة والمساءلة الإعلامية؟
لا يمكن إنكار بعض الإيجابيات في المشروع، مثل تخصيص مقاعد للنساء، وتطوير آليات الوساطة والتحكيم، وإنشاء سجلات للمهنيين والناشرين. لكنها مكاسب شكلية إذا لم تتأسس على مجلس يعكس فعلاً التعدد والتنوع داخل الحقل الصحافي، ويمثل الصحافيين الحقيقيين لا أولئك الذين يصطفون في لوائح جاهزة تُطبخ في الكواليس. فالديمقراطية داخل المؤسسات المهنية ليست في عدد الكراسي المخصصة، بل في نزاهة طريقة توزيعها وشفافية معايير الاختيار.
المجلس الوطني للصحافة ليس مجرد هيئة تقنية، بل مرآة تعكس العلاقة بين الدولة وحرية التعبير. فإذا كان المشروع الجديد يُفصَّل على مقاس الناشرين الكبار والمقربين من مراكز القرار، ويتغاضى عن تمثيلية حقيقية للصحافيين، فإننا لسنا أمام إصلاح، بل أمام محاولة جديدة لتقنين السيطرة على مهنة يفترض أن تكون سلطة رابعة، لا ذراعاً خامسة في خدمة منطق الضبط والتحكم.
وهكذا، يتحول المجلس الوطني من فضاء للتنظيم الذاتي إلى آلية إضافية لإحكام القبضة على المجال الإعلامي، في وقت تحتاج فيه البلاد إلى إعلام حر ومهني ومسؤول أكثر من أي وقت مضى.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى