حين يستفيق الريف من غفوته: قراءة في مرايا الوعي والسلطة في رواية (حركة تنقلات) للكاتب محمد عبد السميع نوح

.بقلم الأستاذة الدكتورة وسام علي الخالدي/ العراق
حين يكتب الريفُ نفسه، لا يفعل ذلك كديكورٍ شعبيٍّ أو خلفيةٍ لغويةٍ لحكايةٍ عابرة، بل ينهض بوصفه كيانًا نابضًا بالحياة، مكتنزًا بالرموز، مشبعًا بالتناقضات. في رواية “حركة تنقلات” للكاتب محمد عبد السميع، نحن أمام عملٍ سرديّ لا يكتفي برواية حكاية موت عمدة وعودة أخيه، بل يغور عميقًا في طبقات الذاكرة الجمعية، ويكشف الموارب من أوجاع القرية التي طالما صمتت تحت ظلال السياط والمآذن والزيف المتلفّع بعباءة الورع. هنا، لا تتحرك الشخصيات فقط، بل تتحرك الحقيقة نفسها في مساحات ضيقة من الضوء، وتتداخل الأزمنة كما تتداخل الأرواح، لتولد من هذه المتاهة رواية مدهشة، تسرد بأناقة الناقد وبنبض العارف، وتطرح أسئلتها كمن يفتح نافذة على التاريخ من قلب مقبرة. إننا بإزاء عملٍ لا يُحاكي الواقع فحسب، بل يُعيد تأليفه بلغة تمزج بين الحكاية الشعبية والفن الروائي، وتُنصت إلى صوت الأرض.
إن رواية “حركة تنقلات” لمحمد عبد السميع عمل سردي باذخ، يتكئ على واقعية كثيفة التفاصيل، تستحضر الريف المصري لا كفضاء جغرافي ، بل ككائن حي تنبض أوصاله بالوجع والتاريخ والخرافة والمقاومة. فمنذ الصفحات الأولى، يفتح الكاتب نافذة على قرية “كفر هِس”، حيث يبدأ النص بموت العمدة “عتمان رسلان”، موتا لم يكن حدثًا عابرًا، بل لحظة فارقة في وعي الجماعة، وكأن القرية تخرج من رقادها الطويل لترى نفسها بلا سوط، وبلا ظل يستظل به الجلادون. الرواية تشكك من البداية في الموت ذاته، ليتحول “عتمان” إلى شبح سردي، وجسد ميت ينهض، وظل يحوم فوق رؤوس من حاولوا انتزاع أنفاسهم من قبضته.
لقد تحركت الرواية بين الأزمنة بسلاسة سردية مدهشة، وتفتح شرايين اللغة لتسيل الحكاية بماء الفقد والخذلان والمقاومة الصامتة. ويبدو ان الشخصية المحورية “علوان”، الأخ الأصغر للعمدة، هو نقيض أخيه بكل المقاييس، يُبعث من القهر والخذلان ليصبح ضمير القرية الجديد، الذي لا يطالب بالعمودية، بل بالعدالة، وبأن تعود الأرض إلى من حرثها بدموعه. ومن خلال علوان تتفتح أسئلة الرواية حول معنى الوراثة، هل نرث السلطة أم نرث الألم؟ هل يسري الجبروت في الدم، أم يُخلق في النفوس القاسية فقط؟
اما فاطمة،تلك المرأة المنسية، فكانت روحا أخرى للرواية. من خادمة إلى امرأة محبوبة إلى مغتصبة بالزواج القسري، تتجسد فيها مأساة الأنثى في المجتمع الريفي، لكنها أيضًا تتحول إلى رمز للحقيقة المغيبة التي يحاول علوان استعادتها. فحب علوان لفاطمة ليس فقط عاطفة إنسانية، بل فعل مقاومة لواقع يُفصّل النساء على مقاس الطاعة.
وفاضت اللغة في الرواية بعذوبة محلية ممتزجة بفنية عالية. فالسرد يعجن العامية بالفصحى دون نشاز، ويمنح التفاصيل اليومية نكهة سحرية. فمشهد الزغرودة الخارجة من النعش، على سبيل المثال، يجسد ذروة المزج بين الواقعي والأسطوري، وبين السخرية الحارقة والمأساة الصامتة. حتى يبلغ الكاتب ذروة إتقانه، حيث يتحول الموت إلى مهزلة، والجنازة إلى مولد، والعمدة إلى ولي مزيف، تحمله الأكتاف ليس إلى القبر، بل إلى المزار.
وجسدت شخصية الشيخ مبروك ببراعة عقلية الانتهازي الريفي، الذي أتقن اللعب على الحبال، وبرع في التلون، حتى كاد أن يظفر بميراث ليس له. فهو ظل العمدة وامتداده، لا يموت معه، بل يسعى إلى وراثته روحيًا وماديًا، في مفارقة تسخر من المؤسسات الدينية عندما تتحول إلى خادم للسلطة لا صوت للحق فيها.
ولا تكتفي الرواية بالكشف عن فساد فرد، بل تفضح بنية القهر بكاملها. القهر هنا ليس حدثًا طارئًا بل منظومة متكاملة تتداخل فيها السلطة والجهل والدين المزيف والخوف المزمن. غير أن الكاتب لا يقع في فخ المباشرة، بل يستخدم الترميز والتهكم والواقعية السحرية ليخلق عملاً متجاوزًا للزمن والمكان.
ويبدو ان “حركة تنقلات” ليست رواية عن قرية مصرية، بل هي عن مصر كلّها، في لحظة انتقال، من عهد يسوده الجبر إلى فجر محتمل تلوح فيه شمس العدالة. إنها رواية عن الصراع بين الموت والبعث، بين صوت العمدة الذي لا يريد أن يدفن، وصوت الأطفال الذين يكنسون الشوارع ويرددون الأغاني، وكأنهم يصنعون بصدورهم الساذجة ثورة بيضاء على تاريخ من السواد.
ولذلك ، يخرج القارئ من الرواية محمّلاً بسؤال وجودي: كم من عتمان فينا لم يمت بعد؟ وكم من علوان ينتظر شروخ السلطة القديمة كي ينبت على أنقاضها وطن جديد؟ والرواية لا تقدم كل الأجوبة، لكنها تضيء العتمة بما يكفي لتبدأ الأسئلة مسيرتها نحو الضوء.
وبعد أن ينتهي القارئ من تقليب صفحات الرواية، يشعر أنه لم يقرأ قصةً محكمة الحبكة، بل مرّ بتجربة وجودية وجمالية، تشبه التنوّر البطيء في حضرة نارٍ قديمة. إن “حركة تنقلات” تتجاوز كونها عملًا روائيًّا لتصبح شهادة على ما هو مسكوت عنه في بنية الريف، وفي وعي الجماعة المغلوبة، وفي تقاطع العاطفة بالقهر، والفساد بالقداسة المصطنعة.
ومن اللافت في هذه الرواية هو الاشتغال العميق على ثيمة العودة، فالعلوان لا يعود فقط من مغتربته الجغرافية، بل من منفاه الداخلي، ليصطدم لا بالقرية كما كانت، بل بما آلت إليه حين كان الغياب عنوانًا. فالموت الذي نُسج حوله الحكي، لا يعني النهاية، بل هو الولادة الجديدة للوعي، وحين يموت العمدة يتحرك كل شيء، كأنّ الحياة كانت تنتظر هذا السقوط لتبدأ.
لقد تمكن الكاتب من زرع الرموز بهدوء، دون أن يثقل بها النص، فالزغرودة الخارجة من النعش لا تنتمي لعالم الواقع، لكنها لا تُشعر القارئ بالانفصال، بل تجذبه نحو طبقة سحرية في النص، تؤكد أن الظلم حين يُغلّف بالقداسة يتحول إلى أسطورة، والكاتب هنا يسعى لا لتفكيك السلطة ، بل لتفكيك الأسطرة التي تحيط بها. ولهذا، يبعث العمدة من قبره، لا ليحكم، بل ليتآكل في صمت، كأن الأرض التي ظلمها تأبى أن تتلقّاه بسلام.
وفي المقابل، علوان لا يتوج عمدة، بل يُنادى بذلك بوصفه منقذًا أخلاقيًا، بصفته رمزًا لما كان يجب أن يكون. فهو ليس بطلاً خارقًا، بل رجلا أُنهك بالخذلان، وعاد ليقتص لا بسلاح الانتقام، بل بالعدالة، وعاد ليزرع الأمانة في أرضٍ لطالما حُرثت بالخوف.
في رواية غزلت عالَمها من خيوط الشجن الشعبي، ومن ذاكرة القرية، ومن همسات النساء ونبوءات الكهول وغناء الأطفال. إنها مرآة كبيرة وملتوية، يرى فيها القارئ ملامح مجتمعه وذاته، ويقف طويلًا أمام مشاهد لا تُنسى: نعشٌ يهتز، قبرٌ يتكلم، امرأةٌ تهذي بالشكوى فتحيي ميتًا، وأطفالٌ يصنعون نشيدهم من بقايا القهر.
هي رواية الحكاية المقاومة، حيث لا يموت المستبد إلا حين تصرخ الضحية، ولا تُستعاد القرية إلا حين تُروى قصتها.
لقد قدم محمد عبد السميع عملًا من طراز نادر، مشبعًا بالتفاصيل، مشغولًا بالفكرة، وملتحمًا بالوجدان الشعبي. فكانت روايته متعة قرائية، و ذاكرة مسرودة، وشهادة فنية على أن الريف ليس فقط خزان المأساة، بل مهد اليقظة القادمة.
ومما يُدهش في هذه الرواية هو تلك القدرة البارعة على الإمساك بتناقضات النفس البشرية. فـ”الشيخ مبروك” ليس شريرًا على النحو الكاريكاتوري، بل هو انموذج مركّب لانتهازي صنعته بنية القرية القائمة على السلطة الموروثة والجهل المقدس. هو شيخ يحمل عباءة الدين، لكنه يُخفي تحتها أطماعه في الأرض والجاه، فيسلك سلوك اللصّ المتخفي بثوب الورع. ولعل أكثر ما يثير الإعجاب في بناء هذه الشخصية هو قدرتها على التلون، والتحول من تابع ذليل إلى قائد في الظلام، يصوغ الخدع ويمهّد الطرق لعودة العمدة الميت-الحي، وكأن الشر لا يختفي بل يلبس أقنعة جديدة كلما أُزيح وجه قديم.
ولعل عنصر السخرية السوداء هو من أبرز تقنيات الرواية الجمالية. جنازة تتحول إلى مولد، والعمدة يُستقبل بالزغاريد، والزيف يُبارك بدعوى الولاية والكرامات. كل ذلك يجعل النص يعيد إنتاج العبث بشكل رمزي صارخ، حيث يموت الجلاد وتُقدَّم له الطقوس كأنه شهيد، بينما تُهمَّش أصوات الضحايا، حتى يطلّ “علوان” بوصفه صوت الضمير المتأخر، لا لينتقم، بل ليعيد التوازن لعالم فقد بوصلته. وهنا تكمن عظمة الرواية: في كشفها المُحكم لآليات الاستبداد المتجذّر في النفوس، لا في السلطة فقط.
و اشتغلت الرواية على الزمن بعين فلسفية، فالماضي لم يذهب، بل هو يتلبّس الحاضر، والحكايات القديمة تُروى في ليالٍ لا تنام، والقبور ليست نهايات، بل هي بدايات لحكايات تُنسج وتُعاد وتُحرّف وفقًا لمصالح الرواة. هذا الاشتباك بين الأسطورة والتاريخ، بين ما حدث وما يُراد له أن يكون، هو ما يمنح الرواية عمقها التأويلي، إذ تترك القارئ مشدوهًا: من الذي مات؟ من الذي يحكم؟ من الذي كُتبت له الولاية؟ ومن الذي سيحمل شمس اليقظة في آخر النفق؟
أما البناء الفني للرواية، فهو أقرب إلى مَجاز الحياة نفسها: لا يخضع لنمطية الفصول التقليدية، بل يتوالى كأنفاس قرية تتقلب في ليلٍ طويل، تبدأ بالصراخ وتنتهي بالهمس الموحِي. الرواة يتناوبون، والضمائر تتداخل، والصور تتراكب، ليولد من ذلك كله مشهد سردي ذو طابع ملحمي، يضم الريف بأفراحه وأحزانه، بأغانيه وهزائمه، بحُلمه الفطري في العدالة ولو بعد حين.
الرواية لا تهرب من الواقع، لكنها لا تسقط في فخّ الواقعية الجافة، بل تُطعّم سردها بماء الشعر، وبسحر الحكاية الشعبية، وبلون الخرافة الطفولية، ليصبح النص كائنًا هجينًا، يحاكي الذاكرة الجمعية كما يحاكي تطلعات الفرد. واللافت أن الكاتب لم ينشغل فقط بإعادة توزيع أدوار الخير والشر، بل تفوّق في تجسيد المسكوت عنه: الحب الصامت، الفقر المستغل، الطفولة المغتصبة، المرأة المهانة، الذاكرة الملتبسة… كل ذلك يطفو بسلاسة فوق نهر الرواية دون افتعال.
وإذا أردنا أن نوجز فلسفة النص في سطر، نقول: إنها رواية عن “وهم السلطة”، و”حقيقة الإنسان”، و”حتمية العدل”، في عالمٍ قد يضل الطريق لكنه لا يفقد الشوق إلى النور. ولذلك، تنتهي الرواية على بزوغ شمس جديدة، ليس كمجاز عابر، بل كتحقق رمزي لانبعاث القرية من سباتها الطويل، حيث يعود الصوت إلى الأطفال، والحقيقة إلى الحقول، والكرامة إلى الوجوه التي طالها الذل، ويتحول القبر من مستقر للموتى إلى مسرح للفضيحة والانكشاف.
إن حركة تنقلات لم تكن سردا تحريضيا ضد الظلم، بل هي كتابة تنويرية عميقة، تستنهض العقل والوجدان معًا، وتحفّز القارئ على إعادة النظر في ما يعرفه عن القرى، عن السلطة، عن الدين، وعن الإنسان ذاته.انها رواية تُقرأ كأنها مرآة مشروخة، تريك الحقيقة في شظايا، لكنها في النهاية تجرؤ على طرح السؤال الجوهري: من يملك الحقيقة؟ ومن يجرؤ على قولها؟
وفي ضوء كل ذلك، يمكن القول إن الكاتب محمد عبد السميع قد قدّم عملًا متكاملًا من حيث النضج الفني، والغنى الدلالي، والجمال اللغوي، والالتزام الأخلاقي، رواية تترك أثرًا باقٍ في ذهن قارئها، ليس لأنها حكاية جيّدة، بل لأنها وعيٌ يُنقل عبر السرد، ورسالةٌ تُكتب بحبر التجربة ودم الضمير.
وهكذا، تنتهي حركة تنقلات لا كنهاية رواية تقليدية تُغلق أبوابها على حدث، بل كصرخة مفتوحة في وجه التاريخ، ونداء يقظ يُدوّي في ذاكرة القراء بأن القهر لا يُدفن بالموت، وأن العدل لا يموت إذا وجد من يوقظه بالحكاية. لقد نجح الكاتب محمد عبد السميع في أن يصوغ نصًّا نادر المثال، حيث اختلطت الحكمة بالسخرية، والأسطورة بالواقع، والهمس الصوفي بالصرخة الشعبية، ليصبح السرد ذاته حركة تنقلاتٍ بين الظلم والعدل، بين الوهم والوعي، بين المقابر والميادين. إنها رواية لا تُقرأ، بل تُعاش، ويظل صداها يتردّد طويلًا في القلب والعقل، كما لو أن كل قارئ هو “علوان” آخر، يخرج من صمته حاملاً فأس الذاكرة ليكسر قبرًا ظنّوه أبديًّا، فإذا بالحكاية تبتسم وتولد من جديد. وهو يشق طريقه نحو أول خيوط النهار.