ثقافة و فن

جان كريستوف بايلي: “الأسماء المشتركة” و”الرواية الواقعية” (3/2)

أحمد رباص – تنوير

ينهي الكاتب سرده قائلا: “الهروب هو المعنى الكامل لهذه التنهيدات. الظهور المفاجئ والعنيف لخارج.” يبدو أن هذه “التنهيدات” في جوقة “الأصوات والحناجر والأفواه” – على الحد الفاصل بين الزفير والغناء – تردد صدى عمل هذه “الصمامات” التي، كما يقول الكاتب في مدخل “الخارج” لكتاب “خصوصية اللغة”، “تحكم الدخول من الخارج إلى “داخل” الأجساد”، بقدر ما تمسرح بطريقة رمزية ودرامية “الرغبة في الخروج من الذات” والتي “غالبا [- وقد مررنا جميعا بهذه التجربة بالفعل -]، ما ترتفع من أعماق الداخل مثل نداء”.
مع ذلك، أكثر من ذلك، بما أن هذه التنهيدة الجماعية والصدوية تستجيب لكلمة، لاسم يأتي من الخارج – لكلمة “هروب” هاته، التي ينطق بها الزائر بدقة – والتي تعمل بالتالي كـ”غطاء” ينفتح بدوره على الخارج، يمكننا أن نسمع هذه التنهيدة كنوع من التأكيد الحيوي الذي يرفض للحظة إساءة وصف هذه الحيوات الأكثر هشاشة من حياة الذباب، الذي يرفض الإنكار الذي يستبعدها من أي مشاركة، والذي يرفض – وسأستحضر هنا مدخل “نعم” من نفس الكتاب – “اللا [التي] تحوم” حول هذه الحيوات، والتي تقول لها، لهذه الحيوات، “نعم”، “مما يجعل التأكيد يتردد صداه مثل حد داخل اللامحدودية التي ينشرها [:] متميزا، مرئيا ورنانا، هذا الحد هو بالضبط ما نسميه المعنى”.
لكن “المعنى” الذي تُحدثه هذه الزفرة في رنينها المتصادي – وهو رنين يتردد صداه بشكل ملحوظ في (وانطلاقا من) سرد بايلي نفسه – لا يبدو أنه يُشير إلى أي معنى مُحدد، بل يبدو ببساطة أنه يُشير إلى البُعد المشترك للوجود، الذي يكشف عنه بكل حيويته، والذي يتشاركه السجناء للحظة فيما بينهم، هم والزائر، ونحن الذين نقرأ القصة. وهكذا يبدو بُعد مشاركة الوجود كحركة حيوية خاصة به، أي انفتاح، أو إعادة انفتاح، على معنى قابل للمشاركة، أو ربما أقل من ذلك، انفتاح على مشاركة المعنى كإمكانية، كقوة المعنى ذاتها.
يتعلق الأمر، كما يرى مورايس، بـ”السؤال القديم عن المعنى”، إذا اردنا استعمال الصيغة الطريفة نوعا ما التي استخدمها جان لوك نانسي في رواية “الظهور”. واستنادا إليه، يمكننا القول إن المعنى يظهر هنا “كعنصر دلالة الوجود باعتباره (هو ذاته) ما يظهر، وأنه ليس هناك معنى لواحد […].”
“ال’معنى’، يقول نانسي باختصار، لا يتحقق إلا في أكثر من واحد. حتى، وخاصةً، عندما يفرض “الأوحد” و”المفرد” معناه.” ويترتب على ذلك، كما يبدو لمورايس، أنه دائما في مواجهة الخارج الذي يجلبه الآخر، يمكن للواحد أن يميز نفسه، وأن يصل إلى “المطالبة بمعناه”. وأخيرا، وباستخدام كلمات بايلي في مقدمته الخاصة بالطبعة الثانية الصادرة عام 2007 لنفس الكتاب، فإن الأمر يتعلق بـ “المعنى الذي يظهر من مجرد حقيقة ظهورنا”. وهي كلمة يحددها الكاتب في الفقرة التالية:
“حدثُ الوجودِ المشتركِ، هذا ما سميناه بـ الظهور : نظهرُ معا، ليسَ ذلك عرضا فرديا يصيبُ جوهرا فرديا ينبغي أن يُعفيَ نفسه منه أو يعتذرَ عليه، وليس أبدا جماعةً يتعين الاندماج فيها. نظهرُ أمامَ الآخر، بمقتضى حكمٍ لم يسبقُه ولا يُنظِّمُه أيُّ قانون. نظهرُ أمامَ أنفسنا، أي أمامَ تماثلٍية ليسَت هويةً، تجمعُنا وهي تفرقنا […]”.
إن هذا الظهور المشترك للذات والآخر أمام الذات والآخر، من خلال “مطلب” ينتهي إلى أن يكون متبادلاً، هذا الظهور الذي يفصلنا عن أنفسنا في مشاركة مجتمع الوجود – دون أن يخلق رابطا مجتمعيا – هذا الظهور هو الذي يبرزه بايلي ونانسي من خلال كلمة “ظهور”.
بالعودة من هذا المنظور إلى مشهد السجن، يبدو أن تجربة الظهور تضع على المحك، تطرح للتداول، تضع موضع سؤال، المشترك، بُعد “مجتمع” البشر الفانين، بالمعنى المزدوج لهذه الكلمة، بطبيعة الحال، ما دام أنه صفة المشترك، “الوجود المشترك”، التي تعزز، على وجه التحديد، ظهور مجتمع حول “حلم بشيء”، كما يقول بايلي أيضا في كتابه “عودة إلى الظهور” الصادر عام 2009؛ وبذلك، تشوه هذه التجربة – دون إعادة تشكيلها – صورة السجناء الذين لا منظور لهم والذين اختزلوا إلى حالتهم الخاصة من الاستبعاد، كما لو أن الحاضر، الوقت الحاضر، يمكن أن يكون حينها، في إطار هذه “الكثافة المركزة”، من هذه “المسرحية المخيفة” التي تم الحصول عليها من خلال صدى كلمات البعض على كلمات الآخرين (اسم “الهروب” و”آه” التي تستجيب لها)، صدى يسمح لكليهما، بمشاركة الظهور المشترك لـ”لما هو قادم”، وبالتالي لـ”نحن”، كما لو أن الحاضر المكثف بهذه الطريقة يمكن أن ينفصل عن نفسه، ينتزع نفسه بعيدا عن نفسه، يهرب، لماذا لا؟، من نفسه، في “ما هو قادم قادر على كسر جمود عالم تراكمي قائم على غياب الحدث”.
يبدو لمورايس، باختصار، أنه من الممكن الإشارة إلى جوقة السجناء هذه كتجربة تُشير إلى تكوين “نحن”، وليس “نحن” “مُشمعة” و”حصرية ومنغلقة”، “منطوية على ذاتها”، بل “نحن” “لا تستقر”، “لا تلتف”: “بدلاً من دائرة، دائرة في ممر”. “نحن” تنفلت، إذن، من “نحن” المطلقة [أو من “هم”] التي تُعطي جوهرا لما سيُعرّفه بايلي، في مقال يُسمى بدقة “”نحن لا تلتف علينا”، بأنه “المشهد الضميري الشمولي”. وكما قال بايلي في “العودة إلى الظهور”، إنها “جوقة غير متطابقة”، “لن يكون لها صوتها الخاص أبدا ولكنها ستعرف كيف تتعرف على نفسها عند رحيل كل صوت”.
بعد ذلك، أراد مورايس ربط هذا الحدث الصوتي في مشهد السجن، وتجربة الظهور هذه، و”ارتعاش المعنى” الذي تردد صداه، و”الخروج المحض عن المعنى”، بإحدى تأملات بايلي في القصيدة، آخذا إياها، القصيدة، لا كمثال على نوع أدبي، بل كـ”حالة الوجود في عالم اللغة دون أي شيء آخر سواها، […] أي في مطلق اللغة، في مطلق إمكانية المعنى”. في مثل هذه الحالة، يقول بايلي مجددا في النص نفسه:
“[…] ما يُقدَّم ليس مسرحة لذات، بل شريطة إمكان قادمة، يُمكن اعتبارها كذلك. تتصوَّر هذه الشريطة انسحابا، بل انسحابا مطلقا: في اللحظة t من بداية القصيدة، لا يوجد شيء، لكن هذه الحالة من الاختناق ليست مصفاةً تتدفق عبرها ذاتٌ تحلم بذاتها، بل هي قناةٌ يدخل منها العالم.

(يتبع)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى