من يقرأ مشروع القانون رقم 26.25 المتعلق بإعادة تنظيم المجلس الوطني للصحافة، للوهلة الأولى، قد يظنه خطوة نحو إصلاح تأخر كثيرًا. فالمهنة تعيش أزمة مركبة: أخلاقية، واقتصادية، ومؤسساتية. لكن ما إن يغوص القارئ في تفاصيل النص حتى تتكشف خلف السطور نوايا لا تخلو من محاولات للهيمنة، ومن استبعاد ناعم لمكونات أساسية داخل الجسم المهني.
فأي تنظيم ذاتي نبتغيه، حين يغيب التوازن في التمثيلية؟ وأي إصلاح نرومه، حين تُفتح الأبواب لمجموعات اقتصادية متغولة، وتُغلق في وجه النقابات المهنية المستقلة؟
المشروع، كما هو معروض، لا يكرس إلا منطق “تقنين السيطرة” بدل “تنظيم المهنة”. فتقليص عدد أعضاء المجلس من 21 إلى 17، وإعادة توزيع المقاعد، لم يُرافقه أي ضمان قانوني لتمثيلية ديمقراطية للصحافيين، بل فُتح الباب أمام الانتداب بدل الانتخاب، وأمام منطق الكم المالي بدل القيمة المهنية. هل يُعقل أن يتم منح بعض الناشرين حق التصويت بأصوات مضاعفة تصل إلى 20، فقط لأن رقم معاملاتهم يسمح بذلك؟ هل هذا إصلاح أم تعميق للفوارق؟
ثم إن إقصاء الصحافيين الشباب من الترشح، عبر شرط عشر سنوات من الممارسة، يعني ببساطة أن الطاقات الجديدة غير مرغوب فيها. أي تجديد ممكن في قطاع يُشترط فيه “القدم” بدل الكفاءة؟
الأخطر أن المشروع يخلط عمداً بين منطق التنظيم المهني ومنطق التحكم المؤسساتي. كيف نفسر أن يكون للهيئات الدستورية الحق في تعيين أعضاء داخل مجلس من المفترض أنه يعكس إرادة الصحافيين؟ بأي مشروعية؟ وأي دور أضافه هؤلاء في التجربة السابقة؟ أم أن وجودهم مجرد وظيفة شكلية، تعويضاتها أغلى من مساهماتها؟
أما ما يزيد الصورة قتامة، فهو إدخال صلاحيات جديدة للمجلس تتجاوز اختصاصاته، كمنح حق توقيف الصحف، أو فرض التحكيم الإجباري في نزاعات الشغل، أو رفع مدة الولاية من أربع إلى خمس سنوات، بل وحتى التنصيص على إمكانية استمرار “لجنة مؤقتة” في حال تعذر تشكيل المجلس. وهذه اللجنة، إن تشكلت، فإنها قد تستمر إلى ما لا نهاية، في سابقة تشبه سوابق مؤسسات مؤقتة تحولت إلى كيانات دائمة في هذا البلد.
إن هذا المشروع، في صيغته الحالية، ليس مجرد تعديل تقني، بل توجه استراتيجي لإعادة تشكيل المشهد الصحافي المغربي. من صحافة تعددية، مهنية، مستقلة، إلى صحافة خاضعة، مؤطرة، خادمة لمعادلات المال والنفوذ.
نعم، لا يمكن إنكار بعض الإيجابيات، كإدماج المرأة بشكل صريح في تركيبة المجلس، وتطوير آليات التحكيم، وتحديث السجلات المهنية، لكن تلك مكتسبات شكلية لا تصمد أمام واقع الإقصاء والتمركز.
فالمجلس الوطني للصحافة ليس هيئة تقنية لتدبير أوراق، بل هو مرآة تعكس موقع حرية التعبير في البلاد، وعلاقته بالمؤسسات. فإذا كان هذا المشروع يخدم مصالح فئة ضيقة من المجموعات الإعلامية الكبرى، ويقصي الطاقات المستقلة، ويهمش التمثيلية النقابية، فإنه لا يمكن أن يكون إصلاحًا.
بل هو محاولة ناعمة لإلباس التحكم لباس الشرعية القانونية. ومتى تم تقنين الإقصاء باسم القانون، فنحن لا نكون أمام “تنظيم ذاتي”، بل أمام “رقابة من أعلى”. وهذا، في النهاية، خطر على الصحافة وعلى الديمقراطية في آن واحد.