ثقافة و فن

جان ميشال بويه: “المرحلة ما قبل الأخيرة من المسار الظاهرياتي: الدين الظاهر” (الجزء الثاني)

أحمد رباص – تنوير
الوحي والتجسد
هذا الصيرورة-إنسان أو التجسد (Menschwerdung) للجوهر الإلهي هو “المضمون البسيط للدين المطلق”. فيه، يصير الله آخر، مع بقائه مساوٍيا لذاته، في عملية كشف عن الذات، حيث لا يكون الإلهي أساسا جوهريا خارج العرضية والمحدودية، بل يكون هو نفسه فقط في هذه العرضية، كفاعل أو ذات، لا تحتوي على سرّ ولا غموض، لأنها ببساطة فعل إظهار الذات ومعرفة ذاتها كما هي، في حقيقتها الروحية. وهكذا، يستطيع هيجل أن يعارض المسيحية الحقيقية باللاهوت العقلاني، ويؤكد، كما نجد في المقدمة، أن الله، بعيدا عن كونه أساسا ثابتا لا يتحرك يكفي أن تُنسب إليه محمولات كالخير والعدل والقداسة، إلخ..، فهو ذات فقط لأنه عملية إظهار ذاته على هذا النحو، من خلال أن يصبح آخر – هذا الإنسان المتفرد الذي هو المسيح – ومن خلال بقائه مطابقا لذاته في هذا الاختلاف.
بهذا المعنى، فإن الدين المسيحي هو الدين الذي يتطابق فيه المضمون (تجلي الإلهي) والشكل (معرفة هذا التجلي)، لأنه ليس سوى فعل الروح المطلق الذي يعرف ذاته في مطلقيته، بحيث إن ما قد يبدو سقوطا أو فقدانا (نزول الله إلى قلب الحقيقة الإنسانية) هو على العكس ما يشكل رفعة ومجدا أسمى للجوهر الإلهي الذي، بهذا فقط، “بلغ جوهره الأسمى”. إن ما هو أدنى هو في الوقت نفسه أعلى، ولا يكون  الله “أعمق ” إلا بقدر ما يظهر نفسه تماما ودون أي توقف، من خلال “الخروج كليا إلى السطح ” . من هنا جاءت الطبيعة الظاهرة للدين المسيحي، حيث يكون الله موجودا، في الوجود الأكثر مباشرة وتجريبية، كما هو في ذاته، كروح، أي كالمعرفة الخالصة بكونه مطلقا، أو كالمعرفة النظرية الخالصة، التي تأتي لتحقيق آمال وتوقعات العالم السابق، من خلال توفير له فرحة الحدس بما هو الجوهر المطلق وإيجاد الذات فيه.
يبقى أن هذا “الوجود-هنا المباشر […] ليس مجرد وعي مباشر”، بل هو أيضا “وعي ديني”؛ ما يعني أن التجسد ليس مجرد حقيقة، بل هو أيضا الحدث التأسيسي لدين، والذي لا يُفهم معناه الحقيقي أو “مفهومه المُتطور” خارج نطاق الخطاب الذي تُتداوله الجماعة المسيحية عنه. هذا ما يُشير إليه هيجل بتذكيره بأن الروح، في مباشرتها الحسية، تُقدم نفسها أولًا كوعي مُفرد (شخص المسيح) أو كـ”واحد حصري”، مُجرد من كل كونية؛ ومن هنا تأتي ضرورة “الظهور المباشر” لهذا الوجود المُفرد، أي موت المسيح وقيامته كروح تعيش في الوعي الذاتي الشامل للجماعة: من كان مجرد إنسان مُفرد يفقد شكله الحسي، أي الوعي.
“يتوقف عن رؤيته وسماعه، فقد رآه وسمعه، ولأنه رآه وسمعه فقط، أصبح هو نفسه وعيا روحيا. […] تبقى الروح ذاتا مباشرة للواقع الفعلي، ولكن كوعي ذاتي كوني للمجتمع، وعي يرتكز على جوهره، تماما كما أن هذا الأخير، في مثل هذا الوعي، ذات كونية”. من الواضح، مع ذلك، أن هذا الارتقاء إلى الكوني ينطوي على مجازفة: مجازفة اعتبار الكونية المفاهيمية هي كونية التمثيل، التي هي العمومية التجريبية، “المجموع الكلي للذوات”، تماما مثلما أن الـ”هذا المحسوس الملغى” في بداية الرحلة الظاهرياتية “في البداية مجرد شيء إدراكي، وليس بعدُ كليّ الفهم”.
بعبارة أخرى، يواجه الدين المسيحي دائما خطر التمسك، في إطار “جوهري” يُجسّد الكلّي بفصله عن المفرد، أو يُختزله إلى بُعدٍ وحيدٍ من عمومية تجريبية، بالحركة التي تشهد على الكونية الفعلية، أو على روحانية المسيح، كوحدة المفرد والكلّي. وهذا ما يحدث عندما تُدرك المسيحية نفي الحاضر المباشر في شكلٍ يبقى محسوسا، وهو البعد في الزمن، سواءً اتخذ هذا شكلَ توافقٍ في الماضي أو توافقٍ في المستقبل:
“الماضي والبعد ليسا إلا الشكل الناقص الذي يُعبَّر فيه عن أسلوب الوجود المباشر، أو يُفترض فيه طابع كوني: هذا الأسلوب من الوجود منغمسٌ سطحيا فقط في عنصر الفكر، محفوظٌ فيه كأسلوب وجود محسوس، ولا يُفترض في وحدة مع طبيعة الفكر نفسه. لا يوجد سوى ارتقاء إلى مستوى التمثيل، لأن هذا هو الارتباط التركيبي بين المباشرة المحسوسة لكونيتها أو للفكر. إن هذا النقص الذي يعبر عنه بوجود “انقسام غير متصالح بين دنيا وآخرة”والذي سيكون من غير المجدي علاجه بالعودة إلى المسيحية البدائية، أو بمحاولة إعادة اكتشاف كلمات المسيح ذاتها، بواسطة نزعة تقليداتية، أو أصولية تعتمد بالتأكيد على “غريزة” تجاوز التمثيل و”الذهاب إلى المفهوم”، ولكنها، من خلال فصل المسيحية بشكل تجريدي عن إدراكها التاريخي، بعيدا عن إعادتها إلى حياتها الروحية، على العكس من ذلك، تخلد “الذاكرة الخالية من الروح لشخصية مفردة لا نعمل سوى على التوجه إليها، وللماضي الذي هو ماضيها”.
(يتبع)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى