افتتاحية
بين «توسيع العمليات العسكرية الاسرائيلية» وفقدان الأفق السياسي: مستقبل حماس إلى أين؟
منذ 5 ساعات
83 3 دقائق

عزيز الحنبلي
في الوقت الذي لا شيء على الأرض الآن غير الجوع، ولا نازل من السماء غير اللهب، حيث شعب يباد بالنار والجوع رغم كثافة التحذيرات التي رفعتها المنظمات المحلية والدولية، التي اعتبرت أن قرابة نصف مليون من سكان غزة وصلوا إلى المرحلة الخامسة على سلم المجاعة الكارثية يتزايد الضغط على حركة حماس، خاصة مع عزم إسرائيل توسيع عملياتها العسكرية في قطاع غزة والسيطرة عليه بشكل كامل. فأي مستقبل ينتظر الحركة في القطاع؟
لا يغيّر الإعلان الإسرائيلي عن توسيع العمليات العسكرية والسيطرة الكاملة على قطاع غزة من الحقيقة البسيطة التالية: الحسم العسكري، بوصفه وصفة سحرية لتصفية نفوذ «حماس»، أقرب إلى الوهم منه إلى السياسة. ما لم يتشكل إطار سياسي واقتصادي وأمني قابل للحياة، فإن أفضل ما يمكن أن تحققه القوة الخشنة هو دفع الحركة إلى التحول من سلطة علنية إلى تمرد شبكي طويل الأمد، يتغذى على الفراغ الإداري والخراب الإنساني.
جوهر الإشكال أن المقاربة الإسرائيلية تضع “الأمن” بمعناه الضيق قبل السياسة، وتتصور أن هندسة الحيز الجغرافي تكفي لتغيير البنية الاجتماعية. غير أن «حماس» ليست كياناً عسكرياً محضاً؛ إنها شبكة تنظيمية وخدمية وعقائدية متجذرة في طبقات المجتمع، تملأ فراغ الدولة عندما تغيب. كلما تمدد الاحتلال المباشر أو غير المباشر دون بديل محلي شرعي وقادر، كلما ازدادت البيئة خصوبة لإعادة تدوير الحركة—ولو بأسماء وسرايا وأساليب مختلفة.
هناك أربع مسارات تلوح في الأفق، لكل واحد منها كلفته ومآلاته:
أولاً، سيناريو السيطرة الممتدة: إدارة إسرائيلية مباشرة أو مقنّعة لمناطق واسعة، مع تفكيك الواجهة المؤسسية لـ«حماس». ظاهرياً قد يبدو هذا “نجاحاً”، لكن الكلفة الأمنية والإنسانية ستُبقي القطاع في حالة غليان مزمن وتفتح باب حرب استنزاف. التجارب الحديثة تقول إن تفكيك الرأس لا يساوي تفكيك الشبكة، بل يدفعها للكمون، ثم العودة بأساليب أكثر مراوغة.
ثانياً، صفقة تبادل كبرى تقايض وقفاً شاملاً لإطلاق النار بترتيبات أمنية وإعادة الإعمار وتبادل الأسرى/الرهائن. هذا المسار—مع كونه الأكثر منطقية لإنهاء النزيف—يصطدم بانقسامات داخلية في إسرائيل، وبحسابات معقدة لدى «حماس» بين كلفة التنازل وفوائد البقاء في “اقتصاد المقاومة”. من دون ضامنين حقيقيين وآليات تنفيذ متدرجة، سيبقى حبراً على ورق.
ثالثاً، «اليوم التالي» بمرجعية غير فلسطينية: أفكار من قبيل وضع القطاع تحت وصاية عربية أو قوة متعددة الجنسيات. قد تبدو جذابة دبلوماسياً، لكنها في الميدان تصطدم بسؤال الشرعية: من يحكم الناس؟ وبأي تفويض؟ وأي جهاز شرطي وأي قضاء؟ إذا لم يكن ثمة حامل فلسطيني معترف به مجتمعياً، فستتحول أي قوة خارجية إلى طرف احتلالي جديد، وتستعيد «حماس» مواردها من خطاب “رفض الوصاية”.
رابعاً، إعادة تموضع داخلي: تشظّي المشهد بين فصائل ومحليات وعائلات ومجموعات أصغر. هذا “تفكيك بالتحبيب” قد يغري بعض العواصم، لكنه غالباً ما ينتهي بفوضى أمنية ومنظومات جباية وسلاح موازية، تُثبّت منطق الحرب الأهلية الباردة وتُضعف أي مسار سياسي.
برأيي، لا يخرج الطريق الواقعي من عنق الزجاجة إلا عبر مقاربة مركّبة، قوامها خمس حلقات مترابطة لا تعمل إحداها دون الأخرى:
-
وقف ناري متفاوض عليه بجدول زمني واضح وتدرّج ميداني يربط كل خطوة بتحسين ملموس في الأوضاع الإنسانية.
-
إطار حكم فلسطيني انتقالـي يضم technocrats يحظون بقبول محلي، مع شراكة مؤسسية—لا أمنية فقط—بين غزة والضفة، كي لا يُعاد إنتاج انفصالين سياسيين.
-
حزمة إعادة إعمار مُؤمَّنة تمولها أطراف عربية ودولية مقابل التزامات شفافة بالرقابة والحوكمة ومنع ازدواجية السلاح والجباية.
-
ترتيبات أمنية تدريجية تُعيد بناء شرطة محلية وقضاء مهني، بإشراف مدني فلسطيني وضمانات عربية، بدلاً من قوات وصاية خارجية مكروهة شعبياً.
-
مسار سياسي أوسع يضع أفقاً معقولاً لتسوية عادلة، لأن إدارة الأزمة بلا أفق لا تنتج إلا أزمات أكبر.