جان ميشال بويه: “المرحلة ما قبل الأخيرة من المسار الظاهرياتي: الدين الظاهر” (الجزء الثالث)

أحمد رباص – تنوير
حدود الشكل التمثيلي
هكذا، يستطيع هيجل أن يعلن منذ البداية أن المحتوى الحقيقي لا يمكن أن يكتسب شكله الحقيقي إلا بشرط واحد: أن يقود الوعي إلى ثقافة أسمى، تتمثل في “رفع حدس الجوهر المطلق إلى مستوى المفهوم، ومساواة وعيه بوعيه الذاتي، لأجله بالذات، كما حصل لنا وله في ذاته”. لذا، يهدف الجزء الأخير من الفصل إلى بيان استحالة تحقيق هذه “المساواة” في الدين المسيحي نفسه، من خلال دراسة كيف يتدهور محتواه النظري، في كل جانب من جوانبه، إلى خطاب تمثيلي، عاجز عن استعادة تماسكه المفاهيمي.
تتمثل الطريقة الهيجلية في تناول هذه النقطة في دراسة اللحظات التكوينية الثلاثة للروح، وهي “عنصر الفكر”، و”حركة النزول إلى الوجود-هنا والتفرد” التي تُقابل لحظة “التمثيل” بالمعنى الدقيق للكلمة، ثم “العودة إلى الذات انطلاقا من تمثيل الوجود-الآخر، أو عنصر الوعي الذاتي نفسه”. وهكذا، تتجلى الروح بالانتقال من إحدى هذه “الدوائر” إلى الأخرى، في عملية يُشكل فيها “التمثيل”، بصفته مشروعا تماما، “الحد الفاصل بين الفكر الخالص والوعي الذاتي”، ولكنه يميل، بطريقة غير مشروعة، إلى “نشر طابعه كرابط تركيبي” على جميع العناصر، وإلى أن يصير بالتالي “تحديديتها المشتركة”.
بعد أن ذکر هيجل بأن مضمون الدين المسيحي يتجاوز في نفس الوقت الباطنية الذاتوية التي يتشبث بها الوعي الشقي، والإدراك الموضوعاني للماوراء الذي يضيع فيه “الإيمان” أو “الوعي المؤمن” المعارض للتنوير، يقترب من اللحظة الأولى، تلك التي تُدرك فيها الروح “في عنصر الفكر الخالص”.
يوضح النص أن الروح “تُمثل أولاً كجوهر في عنصر الفكر الخالص”، أي ” كجوهر بسيط مساوٍ لذاته، أبدي”. لكن توقفنا عند هذا الحد يعني إدراك العقل كمطلق غير محدد، متناسين أنه إذا كان هذا الغموض نفيا لكل تحديد، فهو أيضا نفي لذاته، من حيث هو ما يُشكل التحديد الأولي للعقل. وهكذا، يمكن للنص أن يؤكد أن الجوهر البسيط هو في الواقع ” السلب في ذاته”، أي ” الاختلاف المطلق عن ذاته أو صيرورته آخر الخالصة”، والتي، بصفتها “اختلافا في ذاته […] لا تختلف مباشرة إلا عن ذاتها”، وبالتالي فهي “الهوية التي عادت إلى ذاتها”.
باختصار، العقل، كفكر، لا يتطابق مع ذاته إلا كعملية مطلقة لتمييز نفسه عن ذاته؛ أو، مرة أخرى، هو ” الذات الخالصة”، ” المفهوم” ذاته، الذي يدرك التمثيل ضرورته بالتأكيد، ولكن فقط كـ”اتبثاق”، مع القول إن الجوهر الأزلي، أو الآب، يعطي نفسه “بتوليد” آخر هو الابن. “وبالتالي، بدلاً من تصور “هذه الحركة الخالصة التي تصنع دائرة في ذاتها”، حيث تذوب الاختلافات فورا كما يتم صنعها ويتم صنعها فورا كما يتم إذابتها،” يستبدل التمثيل هذه العملية المنطقية “بالعلاقات الطبيعية بين الأب والابن”، من خلال فصل اللحظات التي ترتبط في الواقع ببعضها البعض بواسطة مفهومها الخاص، ومن خلال الارتباط بموضوعها كما لو كان مرتبطا بموضوع خارجي سيتم الكشف عنه لها من قبل كائن أجنبي.
ومع ذلك، إذا كانت الروح المطلقة “تتجاوز” الجوهر المجرد، الذي لا يمثل فيها سوى لحظة أو عنصر، فهل يكفي أن يُنظر إليها على أنها تمييز خالص لذاتها حتى يتحقق هذا التجاوز بفعالية؟ في الواقع، ما هو صحيح ضمن “الدائرة الأولى” للإدراك المسيحي، بالنسبة إلى الماهية الجوهرية، الذي يُدرك مباشرةً في نطاق الفكر وحده كجوهر بسيط وغير محدد، صحيح أيضا في هذا النطاق نفسه: فالاختلاف الداخلي عن الفكر، أي اختلاف مفكر فيه فحسب، ليس اختلافا فعالًا؛ أو بالأحرى، ليس “أي اختلاف”، إنه “اعتراف بسيط بالحب ، حيث لا يتعارض طرفا العلاقة في ما بينهما بشأن جوهرهما”؛ أو، كما تقول المقدمة، إنه “مجرد لعب الحب مع ذاته” حيث “تغيب الجدية، الألم، الصبر وعمل السلبي”.
وهكذا ينتقل “عنصر الفكر الخالص” إلى الدائرة الثانية، دائرة “التمثيل” بالمعنى الدقيق للكلمة، حيث “تكتسب لحظات المفهوم الخالص وجودا-هنا جوهريا وهي وجها لوجه […] وتتعارض مع بعضها البعض”. استطاع هيجل منذئذ تطوير تاويل قصة الخلاص بأكملها، بدء من سفر التكوين والسقوط إلى الفداء من الشر الذي مثّله موت المسيح وقيامته.
في البداية، تُمثَّل العملية التي تنبثق بها الروح من تجريدها لتصبح كيانا آخر وتكتسب وجودا-هنا حسيا مباشرا، على أنها “خلق عالم”؛ “الخلق الذي هو كلمة التمثيل للتعبير عن المفهوم نفسه بعد حركته المطلقة”. في هذا الكل، الذي يتميز بخارجيته، وهو العالم الطبيعي، تكون الروح حاضرة بالفعل؛ ولكن كذات مفردة، ليست روحا لذاتها بعد. ولكي يحدث هذا، يجب على وعيها أن “يميزها كآخر، أو كعالم لذاتها هي”. وبعبارة أخرى، يجب أن يوجد الإنسان كوعي ممزق أو منفصل عن نفسه، يجب أن يصبح بالنسبة إلى نفسه آخر، عن طريق “ولوج المعرفة بشكل عام إلى الذات”، أو وعي الفكر باعتباره متميزا عن الطبيعة المباشرة، رغم أنه لا يزال “مشروطا” بها، وهو “الفكر، المعارض لذاته، للخير والشر”؛ والذي يعبر عنه التمثيل الإنجيلي بقوله إن
الإنسان فقد براءته وطرد من جنة عدن، لأنه قطف “ثمرة من شجرة معرفة الخير والشر”.
إن أول وعي للإنسان بذاته هو إذن وعيه بوجوده السيئ، أو بالانطواء الذي يُفضل به ذاته فيما على الجوهر. والآن، يضيف هذا المقطع مباشرةً، أن هذا الوعي بالشر لن يوجد، كما لن يوجد التعارض بين الخير والشر، لو لم يكن الوعي بالخير حاضرا أيضا في مواجهة الوعي بالشر. ومن ثم، فإن التعارض ليس داخليا لدى الفرد فحسب، بل يتخذ شكل التعارض بين وعيين، مما يشهد على صيرورة أخرى للذات تُقارن بحركة الله نفسه، الجوهر الأبدي، الذي لا يمكن أن يُساوي نفسه إلا بالبدء بالتحول إلى آخر لذاته. ولكن إذا كان ظهور الشر، بهذا المعنى، غير قابل للاختزال إلى الحدث الطارئ الذي استحضرته القصة الإنجيلية، يظل من الثابت، رغم ذلك، أن كل التمثيلات التي تسعى إلى تحديد أصله في الابن نفسه (الابن المخلوع، انقسام العالم الملائكي بين الملائكة الصالحين والأشرار، غضب الله) لا تقدم إلا إلى عنصر المفهوم ما ينتمي إلى التمثيل، من خلال طمس التمييز بين نظامي الخطاب.
بهذا المعنى، ومع إقرارها بشرعية مسألة العلاقة بين أصل الشر والجوهر نفسه، لا تسعى الظاهرياتية إلى إيجاد حلٍّ في تأمل ثيوصوفي من النوع الذي طوره جاكوب بوهمه: بل تُركز على تيممة إدراك الخير والشر باعتبارهما “جوهرين فكريين، كل منهما قائم بذاته”، الإنسان باعتباره “ذاتا بلا جوهر، ومجالا تركيبيا لوجودهما-هنا وصراعهما”. أو بتعبير أدق، تُتيمم التعارض بين وعي صالح “يُعتبر الجوهر الإلهي بالنسبة إليه جوهريا”، وعي صالح تكمن فعاليته بوضوح في شخص المسيح، كما يُشير النص بالحديث عن “تحقير ذاتي للجوهر الإلهي الذي يتخلى عن تجريديته وعدم فعاليته”، ووعي سيء، بالنسبة إليه، على العكس من ذلك، يكون “الوجود لذاته” و”الوجود-هنا الطبيعي” هما اللذان يستحقان الجوهري، “والإلهي في بساطته باعتباره غير جوهري”.
كيف يُحَلُّ هذا التعارض؟ ليس بصراعٍ يُلغي أحدُهما الآخرَ في نهايته. بالفعل، لفهم العملية التي تُؤدِّي إلى التوفيق بين الوعيين، يجب أن نتوقف عن النظر إليهما كعناصر قائمة بذاتها، خارج تعارضهما، ونعتبرهما “مفهومَين مُحدَّدين، جوهرها في علاقة تعارض”؛ بحيث ينشأ التوفيق بينهما من “حركة ذاتيهما الحرة والسليمة”، التي يُلغي بها كلٌّ من هذين الوعيين أحاديته.
من هذا المنظور، وخلافا لما حدث في جدلية “الشر وغفرانه”، تنتمي المبادرة إلى ما يُعادل الروح الجميلة، ألا وهي المسيح: بما أن هذا الأخير لا يمتلك بعد “جوهرا حقيقيا”، ولا وجود له إلا في علاقة مع نقيضه، فإنه “يذهب إلى الموت، وبهذا يصالح الجوهر المطلق مع ذاته”. وبعبارة أخرى، من خلال إعطاء نفسه وجودا-هنا طبيعيا، أو حضورا حسيا، ومن خلال إزالته في الموت وبالموت، يقدم الله نفسه حقا كروح، أو ككوني في انبعاث نفسه التي تشكل دستورا لمجتمع يعرف نفسه ويريد أن يكون الإنجاز الفعال لحياته الروحية.
إن الصعوبة هنا، كما في المرور من الدائرة الأولى إلى الثانية، لا تكمن في إدراك ما هو عملية مفاهيمية في نمط التمثيل: فألا يكون الله خالصا في ذاته، أو جوهرا مجردا، وألا يكون لهذا المعنى الكائن البشري كائنا سيئا شيئا غريبا عنه، أو أن تكون على العكس من ذلك للحظة “الذات التي هي لذاتها” حقيقتها في التخلي عن انطوائها على ذاتها وتوحيد نفسها مع لحظة الجوهر المطلق، فتلك عملية لا يمكن فهمها إلا من خلال فكر بعيدا عن تجميد لحظات الكل، يعرف أنها كلحظات “موجودة بقدر ما هي غير موجودة” وأن كل الحركة فقط هي حقيقتها. لكن الأمر مختلف بالنسبة للتمثيل: فالتوفيق بين الإلهي والبشري يعني أن “الشر في ذاته هو الخير” ، حتى وإن كان يُقرّ باختلافهما، ويحاول إيجاد توليفة خارجية بين هذين التأكيدين المتناقضين.
في الواقع، يُذكّرنا هيجل بأن الفكر لا يكون صحيحا إلا عندما يكفّ عن اتخاذ أشكال تجريدية مثل ” الشيء نفسه” و”ليس الشيء نفسه”، الـ”هوية” والـ”لاهويّة”، “على أنها شيء حقيقي، راسخ، فعّال، والاعتماد عليها”. المهم ليس مجرد الجمع بين هذين القضيتين، لأنه “ليست أحداهما هي الحقيقة”، بل “حركتهما”، بنفس معنى “الشيء نفسه”، في بساطته، هي تجريد، وفي هذا الاختلاف المطلق، بينما الاختلاف في ذاته مختلف عن ذاته، إذن المساواة مع ذاته”.
نفهم من هذا أنه من خلال المصالحة بين البشري والإلهي في المجتمع الروحي والتي تنتج عن موت وقيامة المسيح، فإن العنصر ذاته من الدائرة الثانية، عنصر التمثيل بحد ذاته، هو الذي يتم إزالته:
“إنها وحدة روحية، أو الوحدة التي تكون فيها الاختلافات مجرد لحظات أو اختلافات مكبوتة، والتي نشأت، بالنسبة للوعي الذي يمثل الأشياء، في المصالحة التي ذكرناها قبل قليل، وبقدر ما تكون هذه الوحدة هي كونية الوعي الذاتي، فقد توقفت عن أن تكون وعياً في نمط التمثيل؛ الحركة عادت إليها.”
(يتبع)