في هذا الزمان الذي تسارعت فيه الأوقات واختصرت فيه المسافات، وتبدلت فيه المعايير حتى كدنا لا نعرف للفضيلة وجهًا ثابتًا، ولا للجمال معنى واحدًا، غابت عن الأبصار صور البساطة الموشّاة بالحياء، وانزوت عن المشهد العام الأرواح التي تشع دفئًا وأمانًا بلا تصنع ولا ادّعاء. لقد صرنا نرى كثيرًا من الوجوه ولا نجد فيها أثرًا للقلب، ونسمع الكثير من الكلمات فلا نلمح وراءها ظلّ الصدق.
غير أنّ الدنيا، على ما اعتراها من تغير، ما تزال تخبئ لنا بين حين وآخر لُقىً ثمينة، وأرواحًا ندية، تذكّرنا بأنّ الجمال الحقيقي لا يكمن في ألوان الثياب وماركاتها الفاخرة ولا في بريق الزينة والمبالغة فيها، بل في صفاء النفس، ونقاء السيرة، وصدق المعاملة. أولئك الذين تراهم فتشعر أنّك أمام صفحة نادرة من كتاب الزمن، تلك الصفحة الفريدة لا يمكن أن تُقرأ إلا ببصيرة متيقظة ولا تُدرك إلا بقلب سليم.
ومن هنا، كان لزامًا أن نقف وقفة نتأمل فيها معنى الجمال الحق، ونتحدث عن البساطة التي تحوّلت، في زمننا هذا، من صفة مألوفة إلى جوهرة نادرة، وعن ذلك الإحساس العميق بالأمان الذي تمنحه بعض النفوس بمجرد أن تقترب منها…
وقد يختلف الناس في تعريف الجمال، كما يختلفون في تعريف الحق، فمنهم من يراه في تنميق المظهر وكثرة الزخارف، ومنهم من يراه في الثياب المزركشة والوجوه الملطخة بألوان الزينة. غير أنّ هذا الجمال المصطنع لا يصمد أمام غربال البصيرة، ولا يبقى في الذاكرة إلا بقدر ما تبقى فقاعات الماء في الهواء.
أمّا الجمال الحقيقي، فهو الذي يولد مع الروح، وينمو مع الأخلاق، ويتجلى في هيئة لا تتكلّف ولا تتصنع. هو ما تراه في وجه هادئ القسمات، إذا نظرت إليه انكشف لك عن صفاء داخليّ لا يقدر على تصنعه أحد. هو ذلك الحياء الذي إذا لاح في العينين أضفى عليهما سحرًا أبدع من ضوء الفجر على سطح الماء، وذلك الخجل الكريم الذي ينبع من رفعة النفس وطيب المعدن.
وقد يخطئ من يظن أن الجمال مقصور على حُسن الملامح أو تناسق القوام؛ فإنما هو مزيج من الحضور الطيب، والخلق الرفيع، والكلمة التي إذا خرجت من الفم، خرج معها عبق الصدق. وما أندر أن تجتمع هذه الخصال في شخص ما، فإذا اجتمعت، صار صاحبها عنوانًا للجمال الحق، ومرآةً لما ينبغي أن يكون عليه الإنسان الكريم.
وإنّ للجمال إذا اقترن بالأصالة أثرًا لا يقتصر على صاحبه فقط، بل يفيض على أسرته ومن حوله. ترى أهله وقد انعكست فيهم تلك المكارم، فيحسنون الاستقبال، ويمنحون الفرد دفء الجلسة وأمان الصحبة. فتغدو العائلة كلها كالبستان، تختلف أزهاره وألوانه، غير أنّ عبيره واحد، وأرضه واحدة.
وفي هذا الزمن المزدحم بالمظاهر الخادعة يصبح اللقاء بمثل هذه النفوس حدثًا نادرًا، وذكرى فريدة. فيحفظ الفرد الأثر الذي تركوه في قلبه، والسكينة التي أهدوها إليه بلا مقابل.
فالجمال الحق إذا هو شعور بالأمان حين تجلس بجوار صاحبه، وثقة بأنك أمام معدن صافٍ لم تمسه شوائب الدنيا. وهو، فوق ذلك، وعد صامت لأن الخير ما زال مقيمًا في بعض القلوب، مهما اشتدت قسوة العالم.
فطوبى لمن كان عنوانه الجمال والبساطة، ولمن حمل في قلبه دفء الروح، وفي سلوكه رقيّ الأصل، وفي حضوره إحساسًا بالأمان لا تمنحه إلا الأرواح النبيلة.