اخبار دولية

نتنياهو يكشف حلم «إسرائيل الكبرى»: الدلالات، السياق، والاستحقاقات

عزيز الحنبلي -متابعة

أعاد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إشعال سجالٍ قديمٍ بعباراتٍ صريحة عن «ارتباطه الشديد» برؤية «إسرائيل الكبرى»، وبتأكيده أنه في «مهمة تاريخية وروحية». جاءت الأقوال في مقابلة تلفزيونية نُشرت يوم 12 غشت 2025، فأطلقت موجة انتقادات عربية حادّة وقراءاتٍ تربط بين الخطاب التوسُّعي وبين وقائع ميدانية على الأرض، خصوصًا في الضفة الغربية المحتلة.

بحسب روايات صحفية إسرائيلية ودولية، قال نتنياهو إنه يشعر «باتصال قوي» مع فكرة «إسرائيل الكبرى»، وعرّف نفسه بأنه يقوم بمهمة «تاريخية وروحية». هذا التصريح لم يأتِ في فراغ؛ إذ صدر في ذروة توترٍ إقليمي واستقطاب داخلي، ومع تنامي نفوذ تيارات يمينية دينية تعتبر «الضم» ومعاداة حل الدولتين خلاصاتٍ سياسية لا مجرّد تكتيكات. وقد قوبلت الأقوال بتنديد عربي واسع وصفها بـ«أوهام توسُّع» تهدّد سيادة دول الجوار.

فكرة «إسرائيل الكبرى» ليست جديدة في السردية الصهيونية والسياسة الإسرائيلية الحديثة؛ فهي تمتد بين تأويلاتٍ توراتية وصِيَغٍ سياسية معاصرة («أرض إسرائيل الكاملة»). وقد سبق أن لوّح نتنياهو برمزية الخرائط: رفع في الأمم المتحدة عام 2023 خريطة تُظهر السيادة الإسرائيلية «من النهر إلى البحر»، ثم تكررت موجات الجدل في 2025 على خلفية خرائط وتصوّرات تُهمَّ بأنها تمحو فلسطين وتوسّع الحدود على حساب دولٍ عربية. هذه الرمزية ليست ديكورًا بصريًا؛ إنها تعبيرٌ عن مشروعٍ سياسي يترجم الخطاب إلى وقائع.

يتغذّى الخطاب على سياسات توسعية في الضفة، أبرزها إحياء مشروع البناء في ممر E1 الرابط بين القدس ومستوطنة «معاليه أدوميم»؛ خطوةٌ يعتبرها حقوقيون وبلدانٌ عديدة «قاصمةً» لفرص إقامة دولة فلسطينية متصلة جغرافيًا. الإعلان عن دفع آلاف الوحدات الاستيطانية في هذا الممر ترافقَ مع دعمٍ من وزراءٍ متطرّفين في حكومة نتنياهو، ما يعمّق فرض «الضم الزاحف» ويُحوِّل رؤية «إسرائيل الكبرى» من شعارٍ أيديولوجي إلى هندسة عمرانية وسيادية على الأرض.

تقوم منظومة القانون الدولي على ركائز أوّلها حظر الاستيلاء على الأرض بالقوة، وهو مبدأ أعادت «القرار 242» (1967) التأكيد عليه صراحةً بعبارة «عدم جواز اكتساب الأراضي بالحرب»، مع الدعوة إلى سلامٍ عادل يضمن انسحابًا من الأراضي المحتلة وحدودًا آمنة ومعترفًا بها. كما يكرّس ميثاق الأمم المتحدة في مادته (2/4) حظر التهديد أو استخدام القوة ضد السلامة الإقليمية للدول. أي خطابٍ أو سياسةٍ تَعدُّ بتوسيع الحدود خارج المعترف به دوليًا يصطدم بهذه القواعد ويعرِّض أصحابَه لعزلةٍ قانونية وسياسية.

ردّت عواصم عربية بحدة على أقوال نتنياهو، باعتبارها تروِّج لتصوّرٍ توسُّعي يتجاوز الأراضي الفلسطينية إلى الجوار، بما يهدّد الأمن الإقليمي الهشّ أصلًا. هذا الخطاب، في لحظة حربٍ متمدّدة وتوتّراتٍ على أكثر من جبهة، يرفع مخاطر الانزلاق من إدارة نزاعٍ إلى صدامٍ أوسع، ويضيّق هامش الدبلوماسية الذي يراهن عليه وسطاء الإقليم.

من الداخل، يعتمد نتنياهو على ائتلافٍ يميني/ديني يقوده وزراء يصفون التوسّع الاستيطاني بأنه «دفنٌ نهائي» لفكرة الدولة الفلسطينية. لذلك يخدم خطاب «المهمة التاريخية» تماسك الائتلاف ورفْع كلفة أي تنازل سياسي، فيما تتحوّل القرارات العمرانية—مثل E1—إلى رهانات انتخابية وأوراق تفاوضٍ داخلية قبل أن تكون استراتيجيةَ أمنٍ قومي.

تتحرّك العدالة الجنائية الدولية بالتوازي مع السياسة. فمنذ 21 نونبر 2024، أصبحت على ذمّة رئيس الحكومة الإسرائيلية أوامرُ توقيف صادرة عن المحكمة الجنائية الدولية في سياق حرب غزة، وقد رفض القضاة في 16 يوليوز 2025 طلب إسرائيل سحبها. هذه البيئة القضائية تزيد كلفة الخطاب التوسّعي خارجيًا، وتدفع دولًا وحركاتٍ حقوقية لتوثيق أي قرائن على «ضم» أو «نقل سكان» أو «تفريغٍ قسري»، بوصفها جرائمَ تقع ضمن ولايات القانون الدولي الإنساني.

ماذا يعني ذلك للمسارات السياسية؟

  1. حلّ الدولتين: يتعرّض لمزيدٍ من التآكل؛ إذ يفرغ التوسّع الاستيطاني والخرائط «المعدَّلة» أي تفاوضٍ من محتواه الإقليمي والحدودي.

  2. التطبيع الإقليمي: خطاب «إسرائيل الكبرى» يضع شركاء التطبيع أو الساعين إليه أمام معضلة علنية: كيف تُبرَّر الشراكة بينما تُمحى حدودُ دولةٍ جرى الاعتراف بها على نطاقٍ واسع؟ (استنتاج تحليلي استنادًا إلى التطورات الواردة أعلاه).

  3. المشهد الفلسطيني: يعزّز سرديات «الاستعمار الاستيطاني» ويقوّي حجج اللجوء إلى المنابر القضائية الدولية—من الجنائية الدولية إلى محكمة العدل—مع ما لذلك من تبعاتٍ اقتصادية ودبلوماسية على إسرائيل.

ليس تصريح نتنياهو مجرّد «زلة لسان»؛ هو نتاج تراكُمٍ أيديولوجي تُعبِّر عنه خرائط، وتترجمه مشاريع بنى تحتية واستيطان، وتُحصّنه سرديةٌ دينية/تاريخية تَعدُ بما هو أبعد من «من النهر إلى البحر». لكن هذه الرؤية تصطدم—موضوعيًا—بقواعدٍ قانونية راسخة، وبواقعٍ إقليميٍ هشّ، وبحسابات عزلةٍ دولية تتزايد كلّما اقترب الخطاب من ضمٍّ صريحٍ وتطهيرٍ جغرافي. إن كان هدف «إسرائيل الكبرى» تثبيت أمن إسرائيل عبر التوسّع، فخبرة المنطقة تقول إن أمنًا يُبنى على إنكار الآخر وحدوده لا يدوم، وأن أي «مهمة تاريخية» تُختبر في غرف القضاء وحدود الممكن السياسي قبل أن تُكتب في مذكّرات القادة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى