افتتاحية

ليس كافيًا أن تكون «مؤهّلًا» قانونيًا: الترشّح للانتخابات امتحانٌ للأخلاق والضمير العام قبل الأوراق

عزيز الحنبلي 

تشكل الدعوة الملكية بمناسبة الذكرى (26) لعيد العرش لمراجعة قوانين الانتخابات المرتقبة محطة مهمة لاتارة النقاش و منطلقاً لفتح نقاش حول إصلاح المنظومة الانتخابية من خلال مدة زمنية كافية بعيدة عن ضغط الحملة الانتخابية، مما يسمح بمشاورات جادة ومسؤولة.

في كل موسم انتخابي نُعيد النقاش نفسه: من يحقّ له الترشّح؟ ما الوثائق؟ ما الآجال؟ أسئلة مشروعة، لكنها تخطئ جوهر المشكلة حين تختزل الأهلية في شهادة قيدٍ وسجلّ عدلي ونموذجٍ مُوقَّع. نعم، القانون التنظيمي يحدّد الشروط والإجراءات، لكن التجربة المغربية تُثبت أن الامتحان الحقيقي يبدأ من حيث ينتهي الملف الإداري: عند النقطة التي يلتقي فيها الحقّ القانوني بالمسؤولية الأخلاقية والسياسية. فما قيمة مرشحٍ «مستوفي الشروط» إذا كان يعجز عن احترام عتبةٍ دنيا من النزاهة، أو يُبدّل خطابَه بحسب اتجاه الريح، أو يُدير حملةً تمويلها معتمّ ومساراتُها ملتبسة؟

إنّ أول ما ينبغي قوله بصراحة: الأهلية المدنية والسياسية ليست رخصةً أخلاقية على بياض. كثيرون يدخلون السباق بأوراق سليمة، لكن الأداء في الميدان يكشف هشاشةً في الفهم: مواطنون يُعامَلون كزبائن، ووعودٌ تُلقى بلا كلفة، ومفاهيم تُفرَّغ من معناها حتى تصبح «التمثيلية» مجرّد رقم. هنا، يتحوّل الشرط القانوني إلى أدنى سقف ممكن، بينما المطلوب في بلدٍ يتطلع إلى ترميم الثقة هو رفع هذا السقف: مرشح قادر على تحويل النص إلى ممارسة؛ يحفظ كرامة الناخب قبل أن يحصي أصواته؛ ويعي أن المنصب ليس غنيمة بل وكالة مُحاسَبة.

لنكن أكثر تحديدًا. حين نطالب بالمحاسبة المالية للحملات، فنحن لا نبحث عن تعقيد بيروقراطي إضافي، بل عن شرطٍ أخلاقي يحمي معنى التنافس. حساب بنكي خاص بالحملة وتبريرات دقيقة للإنفاق ليست تفاصيل تقنية؛ إنها إشارة إلى احترام المال العام ووعيٍ بخطورة المال الفاسد على اللعبة الديمقراطية. وكل تجاوز لسقف الإنفاق أو التفاف على مصادر التمويل يساوي عمليًا تزويرًا معنويًا للإرادة الشعبية، حتى لو كان الصندوق «سليمًا» شكليًا.

ثم إنّ تعارض المصالح ليس بندًا لغويًا في قانونٍ جاف. كيف نُقنع المواطنين بحياد العملية الانتخابية إذا شاهدوا مسؤولين نافذين يهبطون بالمظلّة على الدوائر، أو موظفين في مواقع تأثيرٍ إداري يخوضون الحملات بأدوات الدولة؟ التنصيص على حالات التنافي خطوة مهمة، لكنّ روح النص تقتضي أكثر: ثقافة سياسية تجعل الاستقالة المبكرة من منصبٍ متعارضٍ سلوكًا بديهيًا، لا مناورةً في ربع الساعة الأخير.

على مستوى العرض الحزبي، لا يكفي أن نلوّح بكلمات جذّابة عن تمثيلية النساء والشباب وسكان الهامش. المناصفة ليست ترتيبًا تجميليًا في رأس اللائحة، بل رهانه الحقيقي هو تمكينُ كفاءاتٍ قادرة على الفعل، لا ترصيص مقاعد لضبط الصورة. والحديث عن الشباب يفقد معناه حين يُستدعى الشبابُ لإضفاء مسحة حداثةٍ على برامج قديمة، أو حين تُختزل مشاركتهم في دور «المنشّط الرقمي» بدل إشراكهم في صياغة القرار. وإذا كان القانون يفتح الباب للمرشحين المستقلين عبر التأييدات الشعبية، فالأحزاب مطالَبة بأكثر من فتح الباب: مطالَبة بتنظيف البيت الداخلي من الريع السياسي، ومأسسةِ آليات اختيارٍ شفافة لا تُقصي القاعدة لصالح «أعيان اللحظة».

أعلم أن البعض سيقول: «هذه مثالية؛ السياسة فن الممكن». صحيح، لكن الممكن يتّسع حين تتّسع الشفافية. ما الذي يمنع مرشحًا جادًّا من نشر تعهّد أخلاقي واضح قبل الحملة يتضمن: كشف الذمة المالية، والتعهّد بعدم استعمال موارد عمومية، ونشر تفاصيل الإنفاق أسبوعيًا، وقبول مناظرات علنية حول البرامج بدل مهرجانات شعارات؟ وما الذي يمنع حزبًا مسؤولًا من إعلان مسطرة التزكيات كاملة، بأسمائها وأسبابها ومعاييرها، بدل الاكتفاء ببلاغات مقتضبة تُدار خلف الأبواب؟

أما الإعلام والفضاء الرقمي، فهما اليوم ساحة امتحان إضافي. العدالة في الظهور الإعلامي لا تعني توزيع الدقائق بالتساوي وحسب، بل تعني أيضًا جودة الحوار وعمقه، ومحاصرة الشعبوية التي تُغري بردود الفعل السريعة وتُفقِر النقاش العمومي. والمرشح الذي يراهن على «فيديو فيروسي» لإسقاط خصومه، بدل تقديم برهان برنامج، ينجح ربما في جلب المشاهدة لكنه يفشل في بناء ثقةٍ مستدامة.

الناخب المغربي بدوره أمام مسؤولية لا تقلّ وزنًا: أن يطلب أكثر من بطاقة تعريف وخطاب مُنمّق. أن يسأل عن السيرة المهنية، عن القدرة على الترافع داخل المؤسسات، عن شبكة المصالح التي قد تكبّل القرار، عن الفريق المحيط بالمرشح لا عن شخصه وحده. وأن يستخدم أدوات المتابعة بعد الفوز: حضور الدورات، قراءة التقارير، مساءلة الممثلين، ورفض تحويل «الانتخابات» إلى «موسم» ينتهي ليل الإعلان عن النتائج.

خلاصة رأيي أنّ المغرب لا ينقصه اليوم نصوص قانونية بقدر ما يحتاج إلى روحٍ جديدة في تطبيقها. ثلاث كلمات تلخّص ما أراه طريقًا واقعيًا: صرامة، تحديث، وثقافة. صرامةٌ في الإنفاذ حتى يصبح خرق السقف المالي أو استعمال إمكانيات الدولة مخاطرةً سياسية لا تُغتفر. وتحديثٌ للنصوص يسدّ الثغرات الرقمية والإشهار السياسي المستتر، ويُحكم قواعد تضارب المصالح في زمن الشبكات والمناقصات. وثقافةٌ حزبية تُبدّل منطق «الولاء للأشخاص» بمنطق «الولاء للمعايير»، ومنطق «الوجوه الجاهزة» بمنطق «المسار والكفاءة». عندها فقط يصير شرط الترشح أكثر من مجموعة أوراق؛ يصبح وعدًا معلنًا بأداءٍ مسؤول داخل مؤسسةٍ منتخبة.

الطريق إلى صناديق الاقتراع ليس ممرًا إداريًا؛ إنه ممرُّ ثقة. ومن يطلب وكالة المواطنين عليه أن يقبل بسقفٍ أعلى من الحدّ الأدنى القانوني. هذه ليست مثالية؛ هذا الحدُّ الأدنى لمن يريد أن يحكم باسم الناس، لا باسم ملفٍّ مستوفٍ للشروط.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى