اخبار دولية

قمة ألاسكا: سلامٌ بالتجزئة أم هدنة تُكافئ الغزو؟

عزيز الحنبلي -متابعة

ثلاث ساعات مكثفة جمعت دونالد ترامب وفلاديمير بوتين في أنكوراج وانتهت بلا وقفٍ لإطلاق النار، لكنها كرّست تحوّلًا في المقاربة الأمريكية: القفز فوق هدنةٍ قصيرة إلى «اتفاق سلام شامل» غير محدّد الملامح. ذلك ما لمح إليه تصريح ترامب وما قاله بوتين عن «تفاهم» قد يقرّب السلام، من دون تفاصيل تُذكر. هذا الفراغ التفاوضي لا يُقرأ كفشلٍ ولا كنجاح؛ بل كنافذةٍ مفتوحة على صفقةٍ كبيرة تُطبَخ بعيدًا عن عيون كييف، وعلى طاولةٍ لا تزال قواعدها موضع نزاع.

جوهر التحوّل يكمن في استعداد واشنطن—بحسب تسريباتٍ موثوقة—للنظر في «ضمانات أمنية» ثقيلة لأوكرانيا بدل الإصرار على وقفٍ فوري لإطلاق النار. هذا المسار يرضي سردية موسكو التي طالما فضّلت «اتفاقًا نهائيًا» على هدنةٍ مؤقتة تُتيح لكييف التقاط أنفاسها، ويمنح ترامب مساحةَ مناورةٍ بين إظهار الحزم مع روسيا وتجنّب تورطٍ عسكري مباشر. لكنه أيضًا يرفع سقف المخاطر: إذا كانت الضمانات بلا أسنان تنفيذية، فستكون مجرد ورقة تين تغطي اعترافًا ضمنيًا بميزان قوى فُرض بالقوة.

في خلفية هذه اللحظة، تضع «وول ستريت جورنال» سيناريوهين يبدوان الأكثر ترجيحًا: «تثبيت خطوط التماس» حيث تُقرّ كييف de facto بسيطرة روسيا على نحو 20% من أراضيها مقابل مظلة أمنية غربية؛ أو «تقسيمٌ مع خضوع» تُكره فيه أوكرانيا—تحت ضغط الاستنزاف—على مراعاة المطالب الروسية في سياساتها الداخلية والخارجية. الأول يُشبه «كوريا 1953» بحدودٍ مُجمّدة وسلامٍ بارد طويل؛ والثاني يُهدّد بتحويل أوكرانيا إلى شبه محمية، ما ينسف جوهر سيادتها حتى إن بقي العلم مرفوعًا. كلاهما يعكس حقيقةً مرّة: حين تتقدّم الجغرافيا على القانون، يصير «السلام» اسمًا آخر لإدارة الهزيمة.

لكن هذا التصوّر يصطدم بثابتٍ أوكراني: لا تنازل عن الأرض. زيلينسكي يستعد لزيارة واشنطن تحت ضغطٍ أمريكي وأوروبي متزايد، لكنه يُذكّر بأن أي صفقة على حساب الإقليم مرفوضة شعبياً ودستوريًا، وبأن هدنةً تُجمّد خطوط النار من دون ضماناتٍ رادعة ليست سوى استراحة محارب لروسيا. إن كان ثمّة درس من العامين الماضيين فهو أن موسكو تُتقن استخدام «الوقت» سلاحًا بقدر ما تستخدم المدفع.

أوروبا، بدورها، تحاول أن تجد مقعدًا ثابتًا على الطاولة عبر التفكير بتعيين ممثلٍ خاص لمحادثات السلام—حتى من دون دعوةٍ رسمية. خطوةٌ تبدو تقنية، لكنها سياسية بامتياز: الاتحاد لا يريد أن يجد نفسه أمام اتفاقٍ أمريكي–روسي جاهز يهبط عليه بالمظلة. لكنّ القارة لا تتكلّم بصوتٍ واحد؛ فخطاب فيكتور أوربان الذي اتّهم «الإمبراطورية» الأوروبية بالسعي إلى «استعمار أوكرانيا» يكشف شقوقًا في الجدار الغربي، ويقدّم لموسكو مادةً دعائية عن «أوروبا المنقسمة». بين من يرى «السلام بأي ثمن» ومن يرى «السلام بثمن العدالة»، تضيع البوصلة.

هل يمكن إذن هندسة «سلامٍ قابلٍ للحياة» لا يُكافئ الغزو ولا يترك أوكرانيا بلا مظلة؟ نعم، لكن بشروطٍ أربعة لا تحتمل الالتفاف: أولًا، أن تكون كييف طرفًا مُقرِّرًا لا مُلحقًا؛ فلا قرارات «عن أوكرانيا من دون أوكرانيا». ثانيًا، ضمانات أمنية مُلزِمة قابلة للتفعيل السريع—قانونيًا وعسكريًا—لا بيانات نوايا. ثالثًا، آليات مراقبة دولية على خطوط التماس تُقفل باب «الزحف البطيء» وتربط أي خرقٍ بعقوباتٍ تلقائية لا تحتاج إلى مفاوضاتٍ جديدة كل مرة. رابعًا، إطارٌ اقتصادي لإعادة الإعمار يربط رفع العقوبات أو تخفيفها بسلوكٍ روسي متحقق لا بوعودٍ مُعلّقة.

من دون ذلك، سنحصل على أحد بديلين: إمّا «سلامٌ مُرقّع» يجمّد الحرب لكنه يشرعن مكاسبها، أو «سلامٌ مشروط» يُبقي كييف تحت ابتزازٍ دائم. كلاهما يهدّد النظام الدولي بقاعدةٍ قاتلة: الأرض تُنتزع بالقوة ثم تُحافَظ عليها بالتفاوض. هذه القاعدة، إن ترسّخت في أوكرانيا، لن تتوقف عند حدودها؛ ستغوي مغامرين آخرين، وتحوّل القانون الدولي إلى قائمة أمنيات.

قمة ألاسكا فتحت بابًا لتسويةٍ تاريخية، لكنها فتحت أيضًا أعيننا على سؤالٍ أخلاقي وسياسي لا مهرب منه: أيُّ سلامٍ نُريد؟ سلامٌ يداوي الجرح أم سلامٌ يُخيط الجلد على القيح؟ الجواب لن يتحدد في صور المصافحة ولا في طول الجلسات، بل في معادلةٍ بسيطة: أمنُ أوكرانيا وسيادتها أولًا، أو هشيمُ قانونٍ دولي لن يجد من يجمعه غدًا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى