وجهة نظر

من الأسطورة إلى غزة: حين تؤجل النخب مشروع الحداثة باسم التوازنات والتحالفات

بقلم: الأستاذ مصطفى المنوزي
في المشهد السياسي والفكري المغربي والمغاربي، تتبدى مفارقة صارخة: النخب نفسها التي تطبع مع الأساطير والزوايا الدينية، وتستمد منها شرعية رمزية، هي التي لا تتردد في انتقاد الطابع اللاديموقراطي في تنصيب الشيوخ والوجهاء. لكنها، بدل أن تحسم في سؤال التحديث والديمقراطية، تُفضِّل أن تُؤجِّل هذا المطلب تحت شعار البراغماتية القديمة: “كم من حاجة قضيناها بتركها”.
هذه الازدواجية ليست مجرد سلوك عابر، بل هي بنية عميقة تقوم على ثقافة التأجيل والتبرير؛ إذ يُستَخدم التقليد كوسيط لضمان القبول الاجتماعي والسياسي، بينما يُستَخدم الخطاب النقدي لادعاء الانتماء لروح العصر، دون قدرة فعلية على تجاوز الانقسام.
لكن هذه المفارقة تتخذ بعدًا أوسع حين نربطها بما سمّيناه القضية القومية المختلطة في ملف غزة. هناك تتجسد تحالفات غير طبيعية بين الإسلام السياسي والقوميين والحداثيين الجدد:
الإسلاميون استعادوا في غزة شرعية المقاومة بعدما خفت بريق مشروعهم السياسي داخليًا.
القوميون وجدوا فيها آخر معقل رمزي لفكرة الوحدة والممانعة.
أما الحداثيون الجدد فانجذبوا إلى سردية الضحية والصمود باعتبارها تعيد إنتاج خطاب “الإنسانية الكونية” الذي يستهويهم.
غير أن هذا الالتقاء لم يكن ثمرة مشروع سياسي حقيقي، بل هو تواطؤ ظرفي على أسطورة مشتركة: أسطورة المقاومة البطولية، المظلومية التاريخية، والخلاص المؤجل. وهنا تتكرر الآلية نفسها: النخب تتحالف على الرموز والأساطير، لكنها تؤجل الحسم في أسئلة الديمقراطية والحداثة.
وهكذا تصبح غزة – بما تحمله من رمزية قومية–دينية–إنسانية – أداة إسقاط رمزي تُستعمل داخليًا لتبرير الهجنة السياسية: فإذا كانت الأولوية للقضية القومية، فلا بأس من تأجيل الدمقرطة الوطنية. وإذا كان الرهان على مقاومة الخارج، فلا ضرورة للاستعجال في مقاومة الاستبداد أو الفساد في الداخل.
إننا أمام معادلة خطيرة: بدل أن تُلهم القضية القومية مشروعًا تحرريًا متكاملًا، تتحول إلى ذريعة لتأجيل التحرر الداخلي، وتُغطي على أزمة النخب في مواجهة سؤال التحديث.
نحو أفق آخر
التفكير النقدي التوقعي يفرض علينا قلب هذه المعادلة: لا حداثة تُؤجَّل باسم الأسطورة، ولا قضية قومية تتحول إلى ملاذ تبريري للهجنة الداخلية. وحده الربط الجدلي بين التحرر القومي والتحرر الديمقراطي قادر على كسر دائرة التأجيل والتبرير. فالقضية الفلسطينية – وغزة في قلبها – لا ينبغي أن تكون ذريعة لتعليق الحداثة، بل مدخلًا لتأسيس مشروع تحرري شامل، يزاوج بين العدالة الوطنية والعدالة الكونية، بين مقاومة الخارج ومساءلة الداخل.
مصطفى المنوزي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى