صحة

السرطان: تمردُ الخلايا على قواعد الجسد

عزيز الحنبلي -متابعة

السرطان مجموعة كبيرة من الأمراض يشترك معظمها في صفة أساسية: خروج بعض الخلايا عن الضبط الطبيعي لدورة حياتها، فتتكاثر من دون توقّف، وتفلت من آليات المراقبة والموت المبرمج، وقد تغزو الأنسجة المجاورة وتنتشر إلى أعضاء بعيدة (النقائل/الانبثاث).

تُستبدَل الخلايا باستمرار. لكلِّ جزءٍ من أجسامنا وظيفةٌ محدّدة ويعتمد على خلايا متخصّصة لأدائها. وتتكاتر الخلايا عبر الانقسام أولاً، فتُنشئ نسخةً مطابقةً لها تحمل المعلومات الوراثية نفسها (الحمض النووي ADN).

في الحالة الطبيعية يتمّ انقسام الخلايا بطريقةٍ مضبوطة، ويبقى عددها شبه ثابت خلال مرحلة البلوغ. لكن قد يحدث أحيانًا خللٌ يؤدّي إلى تسارع في انقسام الخلايا. ولدى الجسم آلياتٌ لمراقبة هذه العملية، غير أنّ تعطّلها يفضي إلى زيادة سرعة تكاثر الخلايا «المعيبة» التي تمتصّ كمّياتٍ أكبر من المغذّيات وتتضاعف بوتيرةٍ أعلى، فتتشكّل كتلة (ورم). وعندما تبقى هذه الخلايا أو الورم موضعيّة تُوصَف بأنها حميدة أو غير سرطانية. أمّا إذا امتلكت القدرة على غزو الأنسجة المجاورة فتُسمّى خلايا سرطانية وتُنتِج أورامًا سرطانية. وعندما تنتشر هذه الأخيرة إلى أجزاءٍ أخرى من الجسم يُعرَف ذلك بالانتشار أو الانبثاث (النقائل).

كيف يبدأ؟
كل خلية تحمل شفرة وراثية (ADN) تنظّم انقسامها وإصلاح أعطالها. عند تراكُم طفرات جينية—بسبب أخطاء عشوائية في الانقسام، أو التعرّض لعوامل مُسرطِنة كالتدخين وبعض الفيروسات والأشعة والالتهاب المزمن—تُصاب الشبكات الضابطة بالخلل. أهم الفئات الجينية المتأثّرة:

  • البروتو-أونكوجينات: تتحوّل بطفرات مفعِّلة إلى «جينات مُسرطِنة» تدفع الخلية للنمو بلا كبح.

  • الجينات الكابحة للأورام: تعمل كـ«مكابح» للنمو وإصلاح الـADN تعطيلها يرفع احتمال التحوّل السرطاني.

  • جينات إصلاح الـADN

    : خللها يزيد عدم الاستقرار الجيني وبالتالي تراكم الطفرات.

علامات السرطان البيولوجية (Hallmarks)
تشمل الاعتماد الذاتي على إشارات النمو، وتجنّب مثبّطات النمو، ومقاومة الموت المبرمج، والقدرة على الانقسام غير المحدود (تنشيط التيلوميراز)، وتحفيز تكوين أوعية دموية جديدة لتغذّي الورم (الأنجيوجينيس)، والقدرة على الغزو والانتقال البعيد، مع تبدّلات في الأيض الخلوي (تفضيل تحطيم الغلوكوز سريعًا حتى بوجود الأكسجين)، والتهرّب من الجهاز المناعي، وعدم الاستقرار الجيني.

حميد أم خبيث؟

  • الورم الحميد: نمو موضعي، بطيء نسبيًا، لا ينتشر بعيدًا، وغالبًا ما يُستأصل جراحيًا بنجاح.

  • الورم الخبيث (السرطان): خلايا شديدة اللدونة قادرة على الغزو الموضعي والدخول إلى الدم/اللمف والاستيطان في مواقع أخرى مكوِّنة نقائل، وهي السبب الرئيس لخطورة المرض.

لماذا يحدث؟ وراثة أم بيئة؟
أغلب السرطانات متعددة العوامل: يسهم نمط الحياة والبيئة (التدخين، السمنة، الكحول، التعرض المهني، العدوى الفيروسية كـHPV وHBV) بالحصة الأكبر، فيما تعود نحو 5–10% إلى قابليات وراثية موروثة (مثل طفرات BRCA1/2 في سرطانَي الثدي والمبيض، أو متلازمة لينش في سرطان القولون).

التشخيص وتصنيف المراحل
يبدأ بالاشتباه السريري والفحوص المخبرية والتصوير (الأشعّة، الموجات فوق الصوتية، CT/MRI، وأحيانًا PET)، ويُحسَم عبر الخزعة والدراسة النسيجية والجزيئية. تُحدّد المرحلة عادةً بنظام TNM (حجم الورم، العقد اللمفية، النقائل)، لأن المرحلة ترشد قرار العلاج وتُنبئ بالإنذار.

كيف يُعالَج؟
تُختار الخطة حسب النوع والنسيج والمرحلة والحالة العامة، وتشمل مزيجًا من:

  • الجراحة: لإزالة الورم أو تقليل كتلته.

  • العلاج الإشعاعي: لتدمير الخلايا في موضع محدّد.

  • العلاج الكيميائي: أدوية جهازية تستهدف الخلايا سريعة الانقسام.

  • العلاجات الموجَّهة: أدوية تضرب طفرات أو مسارات محددة (مثل HER2، EGFR، BCR-ABL).

  • العلاج المناعي: مثبّطات نقاط التفتيش (PD-1/PD-L1 وCTLA-4) أو مقاربات أخرى تُعيد تنشيط مناعة المريض ضد الورم.

  • العلاج الهرموني: في السرطانات الحسّاسة للهرمونات (الثدي، البروستات).

  • زرع الخلايا الجذعية والرعاية التلطيفية لدعم الأعراض وجودة الحياة.
    يتنامى دور الطب الدقيق (التحليل الجينومي للورم) لتطويع العلاج حسب البصمة الجزيئية لكل مريض.

هل يمكن الوقاية؟
الوقاية ممكنة جزئيًا: الإقلاع عن التدخين، الحفاظ على وزن صحي ونشاط بدني، تقليل الكحول، غذاء متوازن غني بالنباتات، حماية من الشمس، التلقيح ضد HPV وHBV، والالتزام ببرامج التحري المبكر (عنق الرحم، الثدي، القولون) وفق العمر والخطورة.

خلاصة
السرطان ليس مرضًا واحدًا بل طيف واسع من الاضطرابات تشترك في فقدان التحكم بالنمو الخلوي. فهم آلياته الجزيئية يسهّل الكشف المبكر والاختيار الأدق للعلاج، ويُحسّن فرص الشفاء وجودة الحياة. تبقى الاستشارة المتخصّصة حجر الزاوية؛ فلكل مريض وورم «قصة بيولوجية» تستحق خطة علاج شخصية ودعمًا مستمرًا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى