ثقافة و فن

الانسان المعاصِر وأزمة المُمكنات! عبدالله بوتغرار

        نشر طوماس مور، أحد كبار فلاسفة النزعة الإنسانية، سنة 1516 كتابه المُعنون بالـ”يوتُوبيا” ، واصفاً من خلاله مدينة خيالية تقع في جزيرة بعيدة يقدمها على أنها حقيقية ، مِلئؤها السعادة، تسودها العدالة والمساواة، ضمن نظام حكم يحقق الخير للجميع. لكن رغم أن كلمة يوتُوبيا هذه في اصلها اليوناني مكون من مقطعين “يو” التي تعني “لا”، و”توبوس” التي تشير الى “مكان” ، إلا أن هذا اللامكان ظل يشغل خيال البشرية لقرون عديدة، ليصبح رمزا للطموح في غذٍ أفضل، وممكن مثالي تختفي ضمنه شرور عالم الواقع، وتتحقق فيه أحلام الإنسانية بالسعادة والكفاية والعدل. لكن، في الحقيقة، يوتوبية مور هذه ليست إلا نموذجا ضمن الأدب الديستوبيوأوتوبي الحالم، حيثُ نجد افلاطون هو الأخر في كتابه “الجمهورية”، يقدم تصورا لمدينة فاضلة يحكمها ملوك فلاسفة، ضمن مجتمع يصوّره على أنه جسد واحد وأسرة واحدة، يثم من خلاله ضمان المساواة بين الأفراد في الحقوق والواجبات. هذا على غرار مدينة الفارابي الفاضلة ومدينة الشمس الافتراضية للراهب الإيطالي كامبانيلا، ومجتمع فرانسيس بيكون المُتخيل في كتابه “اطلانطس الجديدة”.
إن هذه التصورات اليوتوبية والممكنات المختلفة بالرغم من كونها مجرد شطحات عقلية، الا أنها تبرز مدى ارتباط المجتمع المثالي بالروح الثقافية لكل عصر على حدى، حيث كان كل تصور بمثابة انعكاس لطموحات وأسئلة وأمال زمانه في ممكنات تسعى نحو التغيير .

لكن مع مطلع العصر الحديث لم يعُد الأمر  مقتصرا على خيالات وافتراضات، بل أصبح المجتمع المثالي مشروعا فلسفيا واجتماعيا حمل لواءه فلاسفة الحداثة والتنوير، حيث  السّعي الى تحرير العقل البشري من قصوره وكسله وجبنه، من خلال محاولة التحرر من الدوغمائيات التي قيدت الفكر لقرون عديدة، رافعين بذلك شعار  الأنوار الشهير الذي صاغه كانط في جملة: “لتكن لك الشجاعة في استعمال عقلك الذاتي sapereaude”.  لقد كان عصر التنوير عصر الإيمان بالعقل والعلم والتقدم، ومنه كانت الحداثة قوة دافعة نحو التجرؤ  على انشاء مجتمع مثالي كان مجرد أحلام وخيالات، مجتمع يحاول ضمنه الفلاسفة  القضاء على الطغيان وترسيخ قيم التسامح والحرية وحقوق الإنسان، إلى جانب بناء عقد اجتماعي جديد يروم تحقيق السعادة المشتركة وضمان كرامة الانسان، على اعتبار أن  تصورنا لليوتوبيا مهما بدا بعيد المنال فإنه يلهمنا ويدفعنا نحو التفكير النقدي في واقعنا والسعي نحو تحقيق أكبر قدر من السعادة والرخاء.

بيد أن التنوير كان بمثابة يوتوبيا طالما حلمت بها عقول القرون السالفة، حيث أصبحت الممكنات هاهنا واقعا اضحى يفرض نفسه في المجتمعات الإنسانية، خاصة أن التحضر الذي كان يُنظر اليه بوصفه ممكنا، وبوصفه أعلى مراتب الإنسانية كما أبان عن ذلك لويس مورغان، أصبح جزء لا يتجزأ من المجتمعات الحديثة، بل أضحت هذه المرحلة تلقب بالمرحلة الوضعية او العلمية، بوصفها أعلى مراتب تقدم البشرية كما نجد عند اوغست كونت ـ

أمام هذا التقدم الذي تغنت به هذه العصور، ستدخل الإنسانية مرحلة جديدة مع بداية مطلع القرن العشرين، الذي تخللته بدايات عاصفة، تمثلت في ثورات وازمات اقتصادية وحربيتين عالميتين، حيث ستدخل الحداثة الغربية في حينه في طور  أزمة يبدو أنها على عكس مثيلاتها في التاريخ أزمة بنيوية عميقة تطال الأسس والأصول، إذ رغم نمط الرخاء الذي بات يعيشه الإنسان ضمن التقدم التكنولوجي الاصطناعي، إلا أنه سرعان ما  تسارعت الثورات والأزمات بملاحقة الإنسان، وقد تمثلت تبعات ذلك في دخول إنسان القرن العشرين في أزمة وجودية وتيه لم ير مثلهما قط. لكن بالرغم من كل ذلك، ظل الأمل في غد افضل مصاحبا للإنسان، إذ نجد مثلا التورة الروسية 1917 والثورة الصينية1949، ألهمت كثيرا من البشر الذين نظروا إليها طريقا لتحقيق العدالة والمساواة، أما في مجتمعات العالم الثالث، فقد ارتبط التقدم بمشروع التنمية، الذي كان يُحمل ضمنه طموحات عدة، في سبيل الخروج من ظلمات الفقر والتخلف، من خلال تحقيق النمو الاقتصادي والعدالة الاجتماعية، والتحرر من ظلمات الاستعمار، من خلال بناء مجتمعات مستقلة قائمة بذاتها .

لكن مع بداية منتصف القرن العشرين دخل العالم زمن التشاؤم، حيث بدأت فكرة التقدم والممكنات تفقد بريقها، إذ شهدت المجتمعات الغربية أزمات تمثلت مظاهرها في ما سماه نيتشه ب”أفول المتعالي” الذي كان الإنسان الغربي يستمد منه ممكناته، سواء كان متعاليا لاهوتيا، أو متعاليا أخلاقيا، أو متعاليا ميتافيزيقيا. حيث سقط العقل البشري في ازمة حادة منذ أن حاد مشروع الحداثة والتنوير عن مساره الأصلي، وسقطت الحضارة في ما سماه نيتشه بالعدمية، وتحول العقل الى أداة هيمنة على الطبيعة وعلى البشر انفسهم” بحسب تشخيص رواد مدرسة فرانكفورت”.  
دخل الإنسان هنا في ما اصطلح عليه بمجتمعات ما بعد الحداثة، حيث يعد ذلك إعلانا صريحا عن انتهاء ذلك الحلم الجماعي الذي كان يوما ما ممكنا يحرك رغبة الإنسان في تحقيق التقدم. ومقابل ذلك، انتشرت النزعات التشاؤمية واللايقينية، حيث تراجعت الثقة في السرديات الكبرى التي وعدت الإنسان بالسعادة والرخاء، ليكن “الوضع الما بعد الحداثي” ابان ذلك عن كونه وضعا يُبخس الحياة ، وضعا بعيدا كل البعد عن ما كان يأمله الانسان قبل ذلك، بل أصاب قلب هذا الإنسان فتُور غريب تجاه الممكن، كأن شَعلت الدهشة التي كانت تضيء عيون الأجداد أمام ابسط اكتشاف قد خبت، واستبدل بها نوع من التشاؤم واللامبالاة أو حتي الشك تجاه الافاق الجديدة، بل حتي الهروب الماورائي الذي كان يثمنه الإنسان ويثقنه لم يعد يجدي مع إنسان القرن 20، إذ ان المتعالي اللاهوتي الذي كان يُسقط الإنسان عليه كل الصفات التي كان يفتقر إليها: كالقوة، والقدرة، والكرامة، والعلم، والمعرفة، والحق، والخير…إلخ، هذا المتعالي هو الأخر سرعان ما أُعلن عن أفوله خلال هذه الفترة، مما جعل عالم القيم اللاهوتي الذي كان ملاذ الإنسان الأخير في الحلم بالممكنات، ينقلب هو الاخر رأسا على عقب، ففقد الإنسان إبان ذلك مركز ثقله، وصار لا يعلم إلى أي أمر يسلّم نفسه، ولا أين يتجه. لقد صار كائنا بدون هوية، أو بالأحرى أصبحت هويته هي التيه، إذ أن الإمكانات الكاذبة والتجارب المريرة وخيبات الأمل المتكررة في تحقيق الممكنات التي وعدت بها الحضارة الحديثة، أغرق الانسان في بحر اللايقين الذي لم يعد يعرف اتجاه الفرار منه، فالحداثة جاءت لتخلص الانسان من الوهم، لكنها تركته بدون وجهة .

اتخذ الإنسان هاهنا طريقا مغايرا لم يعد فيه الأمل في مستقبل أفضل راسخاً، أصبح الانسان كائنا هشا مع تلاحق الأزمات العديدة التي كانت بمثابة تأكيدات لتلك المخاوف، كحادثة 11 سبتمبر التي كانت ضربة قوية لأوهام الاستقرار العالمي، وبداية عصر جديد من الاضطراب الأمني والسياسي، وما تلا ذلك من أزمات اقتصادية عالمية عدة، كشفت عن هشاشة الاقتصاد الرأسمالي وزعزعت الثقة في النظم الاقتصادية المهيمنة، على غرار التهديدات البيئية العديدة من كوارث طبيعية “كالمحيط الهندي 2004” التي تُبدي بشكل جلي فشل الانسان في مواجهة قوى الطبيعة .

كل هذا أدى الى تشكيل رؤية تشاؤمية، تهاوت من خلالها الاخلاق والقيم وكل الممكنات التي كانت بمثابة بوصلة توجه الإنسان، حتي صارت العدمية والعبثية والشكوك الراديكالية، خطرا يلقي بالإنسان ضمن فراغ وجودي، يشعر ضمنه بالضياع وعدم الانتماء في عالم يراه خاليا من أي غاية أو هدف متأصل، وبالتالي يأسه من كل مستقبل أو من كل الآفاق الواسعة التي كانت تُعرف يوما بالممكنات. إذ لم يعد المستقبل بمثابة ذلك القماش الأبيض الذي كنا ننسج عليه أحلامنا وتطلعاتنا، بل أضحي لوحة رمادية باهتة، لا تحمل اية وعود بالإشراق والتجديد، تلك الممكنات التي كانت تلوح في الأفق، بدت وكأنها تتلاشى خلف حجاب مضبب، تاركة وراءها شعورا بالعجزواللاجدوى، حيث لم تعد فكرة التقدم كممكن من الممكنات كافية لتبديد المخاوف أو تهدئة النفوس، بل بات عصرنا الذي يعج بالأزمات يطرحنا أمام واقعنا المُعري من كل مثالية و أحلام يوتوبية .

 

الكاتب : عبدالله بوتغرار ، طالب باحث بالمدرسة العليا للأساتذة بالرباط.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى