قرار محكمة النقض الصادر في 21 دجنبر 2021 لا يمرّ مرور الكرام. فحين تقرّر أعلى جهة قضائية أن الاستفادة من العفو الملكي أو الحصول على حكم بردّ الاعتبار لا يمكّنان من استرجاع الأهلية الانتخابية لمن أُدينوا بعقوبات جنائية، فهي لا تكتفي بقولٍ في تفسير القانون، بل ترسم خطّ تماسٍّ دقيقًا بين فلسفتين: فلسفة حماية نزاهة الاقتراع وفق نصوص انتخابية خاصّة، وفلسفة الإدماج الاجتماعي والقانوني التي يجسّدها ردّ الاعتبار والعفو باعتبارهما آليتين لتجاوز آثار الجريمة بعد استكمال الجزاء.
ينطلق القرار من منطق قانوني صلب: عند التعارض، يتقدّم الخاصّ على العام. قوانين الانتخابات (57.11 و75.11) تُسنّ لضبط شروط الترشح والتقييد في اللوائح على نحو يحمي المشهد التمثيلي من شوائب محتملة، فيما يظلّ قانون المسطرة الجنائية إطارًا عامًا ينظّم آثار العقوبة وأبواب التخفيف والاندماج. بهذا المعنى، فالعفو – وهو تدبير سياديّ يرفع العقوبة أو يخففها – وردّ الاعتبار – وهو آلية قضائية تمحو بعض الآثار القانونية للإدانة – لا يلغيان قيدًا انتخابيًا قرّره المُشرّع بصفته قيدًا خاصًا مستقلًا غايته صون الثقة العامة في العملية الديمقراطية. ومن هنا جاءت قاعدة محكمة النقض: سقوط الأهلية الانتخابية متى ترتّب على حكم جنائي لا يُجبره عفوٌ ولا يرفعه ردّ اعتبار، ما دام النصّ الخاص قد قرّر غير ذلك صراحة.
لكن هل ينتهي النقاش هنا؟ في رأيي، لا. فالمسألة لا تتعلق فقط بتراتبية النصوص، بل بمبدأين دستوريين متوازيين: حماية الاختيار الحرّ للناخبين، وحقّ المواطنين في المشاركة السياسية بعد استكمال الجزاء. إنّ التوازن بين المبدأين هو لبّ السياسة الجنائية الديمقراطية. فإذا شددنا القيد بلا أفق زمني ولا تدرّج، نكون قد حوّلنا عقوبة محددة المدة إلى “عقوبة مدنية مؤبّدة” تمسّ أحد أوسع الحقوق المدنية. وإذا رخّصنا بلا ضوابط، نُضعف رادع الجريمة ونبعث برسائل خاطئة حول جدّية محاربة الفساد والجرائم الماسّة بالشأن العام.
من هنا، تبدو حجية القرار القضائي واضحة قانونًا، لكنها تفتح نقاشًا تشريعيًا مشروعًا: هل ينبغي أن تُصاغ قيود الأهلية الانتخابية على نحوٍ تفصيلي يميّز بين طبيعة الجرائم وخطورتها ومدى اتصالها المباشر بنزاهة العملية الانتخابية والمال العام؟ جرائم الرشوة والاختلاس والغدر وغسيل الأموال، مثلًا، لها صلة عضوية بالثقة العمومية وتستدعي تشددًا أكبر وأمدًا أطول، وربما حرمانًا نهائيًا في بعض الحالات. أما جرائم لا تمسّ الشأن العام أو لا تنطوي على خيانة الأمانة السياسية، فالمقاربة المتدرّجة قد تكون أعدل: آجال محدّدة لاستعادة الأهلية بعد مرور فترة اختبارية، اشتراط شهادات حسن السيرة، أو قرارات قضائية تُقيّم فرديًا مدى الاندماج وإثبات تقويم السلوك.
القول بأن العفو لا يعيد الأهلية الانتخابية ليس انتقاصًا من قيمة العفو، بل وضعٌ له في موضعه الدستوري: العفو تدبير رأفة وعدالة تصحيحية تجاه العقوبة الجنائية، لكنه لا يُبدّل طبيعة “الثقة الانتخابية” التي تحكمها قواعد خاصّة سنّها المشرّع باسم الجماعة السياسية. ومع ذلك، فإن العدالة التصحيحية نفسها تقتضي أن لا يحكم على إنسان بمدى الحياة بالعزلة السياسية لمجرّد سابقة جنائية لا صلة لها بوظائف الانتداب العام، خصوصًا إذا أثبت مسارًا جديًا في الاندماج واحترام القانون.
ولأننا أمام قرارٍ قضائيّ رسّخ القاعدة وقطع الشكّ باليقين، فإن ساحة الإصلاح – إن لزم – هي التشريع. ويمكن للمشرّع، دون المساس بروح القرار، أن يعيد هندسة القيد الانتخابي عبر ثلاثة مسالك عملية: أولًا، تصنيف الجرائم بحسب صلتها بالشأن العام والنزاهة الانتخابية وربط الحرمان بدرجاتها. ثانيًا، اعتماد آجال وأمدٍ للحرمان تكون متناسبة وغير تعسفية، مع إمكان التمديد في الحالات الخطيرة. ثالثًا، فتح مسار قضائي خاص لاسترجاع الأهلية بعد أجل معيّن، رهين بإثبات الاندماج وعدم العود، وبشهادة مؤسسات كالوكالة القضائية أو رئاسة النيابة العامة وفق معايير معلنة وشفافة.
إنّ قرار محكمة النقض، في جوهره، انتصارٌ لقاعدة “الخاصّ يقيد العام” ولسيادة النصّ الانتخابي في مجاله. وهو في الوقت ذاته دعوة غير مباشرة إلى نقاش سياسي وقانوني هادئ حول فلسفة العقوبة وآثارها المدنية. الديمقراطية القوية لا تخشى وضع بوّابات عالية أمام من يطلب تمثيل الناس، لكنها أيضًا لا تجعل تلك البوّابات مغلقة إلى الأبد أمام من تاب واصلح مساره ولم تُدنْ سيرته من جديد. بين هذين الحدّين يَكمُن الحلّ العادل: ثقة لا تُمنح بخفّة، وحقوق لا تُسلب بلا أفق. وفي هذا المسار، يبقى المعيار الأسمى هو صيانة إرادة الناخبين مع الحفاظ على إمكان الاندماج السياسي المشروط والمستحقّ لمن أثبت أهليته من جديد.