وجهة نظر

قطار الحياة في زمن التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي بقلم : هشام فرجي

   لقد تغيّر إيقاع الحياة الإنسانية تغييرًا لم يعرف له التاريخ مثيلًا. فإذا كان ابن خلدون قد حدّد في مقدمته سنن العمران، وربط قيام الدول وسقوطها بعوامل الزمن والبيئة والعصبية، فإنّ زمننا الراهن قد أتى بعامل جديد قلب موازين الاجتماع البشري رأسًا على عقب: التكنولوجيا وما تفرع عنها من ثورة رقمية وذكاء اصطناعي.

فالحياة اليوم أشبه بقطار يسير بسرعة فائقة. غير أنّ الفرق بين قطار الأمس وقطار اليوم أنّ الأول كان يمكن اللحاق به، أما الثاني فقلّما ينتظر، وإن انتظر فانتظاره عابر وخاطف. لقد تحوّل الزمن نفسه إلى مورد نادر، يقاس بالثواني، وتُختصر فيه المسافات، وتذوب من خلاله الحدود الجغرافية والزمانية.

في الماضي، كان الإنسان أسير الطبيعة: الزراعة تُحدّدها الفصول، والتجارة تُسافر مع القوافل، والعلوم تتراكم جيلاً بعد جيل ببطء شديد. أمّا اليوم فقد تحرّر الإنسان من سلطان الطبيعة ليقع في سلطان التقنية. التقنية التي صارت منظومة كونية تحكم تفاصيل معيشته وسلوكياته وعلاقاته.

ولقد بلغنا زمنًا أصبح فيه الذكاء الاصطناعي قادرًا على التفكير والحساب والتحليل واتخاذ القرارات الأمثل والأنسب بسرعة تفوق قدرات البشر آلاف المرات. غير أنّ السؤال الفلسفي الذي يطرح نفسه: هل الذكاء الاصطناعي خادم للإنسان أم سيده؟ أليس من الممكن أن يكون الإنسان قد صنع آلةً ستجرّه إلى حيث لا يريد، كما يجر القطار ركابه إلى وجهة لا يعرفونها؟

فحين قال المعرّي: “تعبٌ كلها الحياة فما أعجب إلا من راغبٍ في ازدياد”، لم يعرف الذكاء الاصطناعي، لكنه أدرك بفطرته أنّ الإنسان يسعى وراء غايات قد لا تزيده إلا عناءً. واليوم، ومع سرعة التكنولوجيا، صرنا نلهث وراء ما ننتجه بأيدينا: نبتكر الآلة، ثم نستعبد أنفسنا بها؛ نُشيّد شبكات التواصل، فنفقد التواصل الحقيقي؛ ونخترع أدوات التيسير، فإذا بنا نعيش في قلق وتسارع وضياع.

وفي الماضي، كان الزمن قيمة أخلاقية، يُقاس بالعمل والإنجاز. أما في زمن التقنية والتكنولوجيا، فقد صار الزمن سلعةً اقتصادية. حيث تُسعّر الشركات الوقت بالدقيقة، ويحسبه المبرمجون بالمعالجة والبيانات، وتقيسه البورصات العالمية بجزء من الثانية. ومع ذلك، يبقى السؤال: هل ازداد الإنسان ثراءً بمعنى الوجود، أم فقراً في المعنى رغم وفرة الأدوات؟

لقد آن للإنسان أن يدرك أنّ الحكمة ليست في الركوب على أي قطار كان، ولكنها تكمن في اختيار القطار المناسب. فليس كل ركوب دليل نجاة، وليس كل سرعة برهان تقدّم، وإنّ الذي يركب قطارًا لا يعرف وجهته قد يصل سريعًا، لكنه قد يصل إلى حيث لا يريد.

إذا لقد أنتج الإنسان أداةً قادرة على التفكير والتعلم واتخاذ القرارات، وهو ما لم يعرفه التاريخ من قبل. لكن هذه الأداة – الذكاء الاصطناعي – طرحت سؤالًا وجوديًا: هل سيظل خادمًا للإنسان، أم أنّه سينقلب سيدًا عليه؟

في التعليم،

 – في *الاقتصاد*، تستخدم البنوك والشركات الخوارزميات لاتخاذ قرارات مالية واستثمارية في جزء من الثانية، بينما يبقى الإنسان متفرجًا أو منفذًا. البورصات العالمية اليوم أشبه بمدن تتحكم فيها آلات خفية.

 – في *المجتمع*، تسللت الخوارزميات إلى حياتنا اليومية عبر شبكات التواصل الاجتماعي، حتى باتت تحدّد ذوقنا الفني، واختياراتنا الاستهلاكية، وحتى ميولنا السياسية.

 إنها سلطة جديدة، لا تُمارس بالقوة العسكرية كما في الماضي، بل بالبيانات والمعلومة والتحكم في الانتباه.

 في السياق المغربي، يمكن رصد أثر هذا التسارع بوضوح:

  • في التعليم، تعاني المدرسة من محاولة اللحاق بركب الرقمنة والتكنولوجيا في ظل بنية تحتية متفاوتة بين المدن والقرى. هنا يطرح السؤال: هل نحن بصدد إدماج الذكاء الاصطناعي كوسيلة لتعزيز المساواة، أم كعامل لتوسيع الفجوة؟ حيث بدأ الذكاء الاصطناعي يضع مناهج، ويصحّح الامتحانات، ويوجه المتعلمين وفق مساراتهم الفردية. والنقاش قائم في المغرب حول إدماجه في المدارس والجامعات، وهو ما قد يغيّر علاقة المتعلم بالمعرفة والمعلم.

  •  في الاقتصاد، يتضح الأثر في قطاع الأبناك والتجارة الإلكترونية. فالتكنولوجيا وفّرت قفزة نوعية في الخدمات، لكنها في الوقت نفسه خلقت جيلاً من المواطنين خارج الشبكة الرقمية، أي خارج “القطار”. حيث تستخدم البنوك والشركات الخوارزميات لاتخاذ قرارات مالية واستثمارية في جزء من الثانية، بينما يبقى الإنسان متفرجًا أو منفذًا. فالبورصات العالمية اليوم أشبه بمدن تتحكم فيها آلات خفية.

  •  في الثقافة، نشهد ازدواجية: من جهة انفتاح على العالم عبر المنصات الرقمية، ومن جهة أخرى تهديد للهوية الثقافية المحلية أمام زحف النموذج الاستهلاكي الكوني. إذ تسللت الخوارزميات إلى حياتنا اليومية عبر شبكات التواصل الاجتماعي، حتى باتت تحدّد ذوقنا الفني، واختياراتنا الاستهلاكية، وحتى ميولنا السياسية.

وختاما، فإنّ مسؤولية الإنسان اليوم أن يعيد النظر في علاقته بالزمن والتقنية والذكاء الاصطناعي، وألا يُسلم نفسه لعجلة لا ترحم وألا يركب قطارا لا يعرف وجهته. فالتاريخ يعلّمنا – كما قال ابن خلدون – أنّ العمران البشري لا يقوم إلا على التوازن: توازن بين الغاية والوسيلة، وبين الفرد والجماعة، وبين العقل والأداة. فالقطار ماضٍ لا يتوقف، غير أنّ الحكيم من يملك بوصلة تحدّد له أي محطة ينزل فيها وأي محطة يتجاوزها.  وأن يحرص على التوازن بين سرعة الزمن، والإبقاء على القيم والمبادئ الانسانية وسط زحام التكنولوجيا. ولعلّ أعظم درس للإنسان المعاصر أن يجعل من التقنية والتكنولوجيا خادمًا لقيمه، لا سيدًا على وجوده.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى