المندوبية السامية للتخطيط تشرح لنا كيف يسير المغرب بسرعتين

أحمد رباص – تنوير
من خلال الحسابات الجهوية، ظهر المغرب في عام 2023 كخريطة مُقسّمة. تتجاور أقطاب الرخاء مع الجهات المُهمَلة، راسِمةً صورةً لبلدٍ يتقدم بسرعتين مُختلفتين.
وفقا المندوبية السامية للتخطيط، حقق الاقتصاد المغربي، عام 2023، ناتجا محليا إجماليا حقيقيا متسلسلًا قدره 1,382.3 مليار درهم، بمعدل نمو سنوي قدره 3,7 ٪. يعكس هذا الرقم الإجمالي مجموعة متنوعة من المسارات الإقليمية. بعضها يتقدم بسرعة كبيرة، بينما يبدو البعض الآخر محكوما عليه بالركود أو حتى بالتراجع.
تميط الحسابات الجهوية لعام 2023، الصادرة عن المندوبية السامية للتخطيط، الحجاب عن هذا الواقع. فهي تُؤكِّد أن النمو ليس مُوزَّعا بالتساوي، بل يتراكم في عدد قليل من الأقطاب النشطة، بينما تبقى مناطق أخرى، التي تُضعِفها بنياتها الإنتاجية، على الهامش.
إذا نظرنا أولاً إلى نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي، نجد خريطة المغرب تُظهر تباينا صارخا. ففي جهات الصحراء، خاصة جهة الداخلة – وادي الذهب وجهة العيون – الساقية الحمراء ، تُسجل مستويات ثروة للفرد تتجاوز تماما بقية البلاد، إذ تبلغ ضعف المتوسط الوطني البالغ 40,500 درهم تقريبا .
يعكس هذا الثراء الكبير أثرًا تعويضيا في المناطق الجنوبية، مدفوعا بالاستثمارات ومشاريع البنية التحتية. مع ذلك، تجدر الإشارة إلى أن انخفاض الكثافة السكانية هناك يُحدث تأثيرا حسابيا، إذ يُضخّم نسب الناتج المحلي الإجمالي للفرد تلقائيا.
في الطرف الآخر من الطيف، تُكابد الجهات الداخلية، مثل جهة درعة-تافيلالت وجهة فاس-مكناس ، من أجل الانطلاق. فهناك، تُشتت الثروة بسبب الكثافة السكانية الكبيرة والاقتصادات الهشة، التي تعتمد اعتمادا كبيرا على الزراعة وتتعرّض للمخاطر المناخية .
يُظهر هذا التباين ظاهرة عالمية. فغالبا ما تكون المناطق الساحلية، المندمجة في التدفقات الاقتصادية والمزودة بالبنية التحتية، هي التي تجذب النمو، بينما تغرق المناطق غير الساحلية في التخلف.
تُذكّرنا الجغرافيا الاقتصادية في كل مكان بأن الوصول إلى الأسواق والبنية التحتية والاستثمار يتحدد بالدرجة الأولى بالساحل وفي المراكز الحضرية الكبرى. ومع ذلك، لا يُمكن تبرير هذه التفاوتات الحالية، والتي يجب تقليصها بسرعة.
إذا ابتعدنا عن منظور نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي ونظرنا إلى الثروة بقيم مطلقة، تبقى الصورة متفاوتة بنفس القدر. ستمثل ثلاث جهات فقط، هي جهة الدار البيضاء-سطات، جهة الرباط-سلا-القنيطرة وجهة طنجة-تطوان-الحسيمة، 58.5% من الناتج المحلي الإجمالي الوطني بحلول نهاية عام 2023.
تُعدّ جهة الدار البيضاء-سطات، بنسبة 32% من الناتج المحلي الإجمالي، القاطرة القوية للبلاد بلا منازع. فهي تُمثّل وحدها أكثر من جميع جهات الجنوب والوسط والشرق مجتمعة. تُمثّل جهة الرباط-سلا-القنيطرة 15.7% من الثروة الوطنية، بينما تُساهم جهة طنجة-تطوان-الحسيمة بنسبة 10.6 %.
هذا التركيز ليس وليد الصدفة. فهو يعكس، مرة أخرى، جاذبية المناطق الساحلية، المنفتحة على الأسواق العالمية والقادرة على استقطاب الاستثمارات الأجنبية. لكنه يطرح سؤالاً مهماً: ماذا تبقى للمناطق الأخرى؟
باستثناء جهتي الصحراء وجهة درعة-تافيلالت ، اللتين يظل وزنهما هامشيا في الاقتصاد الوطني، فقد ساهمت الجهات الخمس الأخرى، وهي جهة مراكش-آسفي، جهة فاس-مكناس، جهة سوس-ماسة، جهة بني ملال-خنيفرة، وجهة الشرق، مجتمعة بما يزيد قليلا عن ثلث الثروة التي تم إنشاؤها، بحصة 33.8% من الناتج المحلي الإجمالي.
وهكذا، تُشير المندوبية السامية للتخطيط إلى تزايد التفاوتات الجهوية في تكوين الثروة. فقد ارتفع متوسط الفجوة المطلقة، الذي يقيس متوسط المسافة بين الناتج المحلي الإجمالي لمختلف المناطق ومتوسط الناتج المحلي الإجمالي الجهوي، من 73.3 مليار درهم عام 2022 إلى 83.1 مليار درهم عام 2023 .
بتعبير آخر، تتسع الفجوات أكثر فأكثر. فالجهات الدينامية تبتعد أكثر فأكثر عن المتوسط الوطني، بينما تتخلف الجهات التي تواجه صعوبات أكثر فأكثر.
في عام 2023، لم يكن النمو متجانسا. فقد سجلت خمس جهات نموا يفوق المتوسط الوطني. وتبرز جهة الداخلة بنمو مذهل بلغ 10.1٪ ، مدفوعا بقطاعي الصيد والبناء، تليها بفارق ضئيل جهة فاس مكناس، التي بلغت نسبة نموها 8.9٪ بفضل موسم زراعي جيد ودينامية الخدمات.
تليها جهة مراكش-آسفي بنمو قدره 6.3%، مدفوعةً بانتعاش السياحة. وسجلت جهة الدار البيضاء-سطات نموًا قدره 5%، وبلغت نسبة النمو في جهة طنجة-تطوان-الحسيمة 4.9%.
فضلا عن ذلك، تسجل خمس جهات أخرى معدلات نمو إيجابية، ولكن أقل من المتوسط الوطني: جهة سوس-ماسة، جهة العيون الساقية الحمراء، جهة الرباط-سلا-القنيطرة، جهة كلميم واد نون وجهة درعة-تافيلالت.
من جهة أخرى، سجلت منطقتان معدلات نمو سلبية: بني ملال خنيفرة والمنطقة الشرقية، وكلاهما تأثرا بالأداء الزراعي الضعيف.
خلف هذه الأرقام الباردة، تكمن حقيقة إنسانية. ففي الدار البيضاء، يعاني السكان من وطأة الاكتظاظ، والاختناق، والتلوث، وغلاء المعيشة. أما في ميدلت أو بني ملال، فتُلقي البطالة وهجرة الشباب بظلالها عليهم.
لا يمكن للمغرب أن يستمر على هذا النموذج من الاختلال إلى الأبد. فبينما يكون من الطبيعي أن تتميز بعض المناطق بديناميتها الصناعية أو السياحية، فإن أي دولة تتخلى عن نصف أراضيها تُعرّض نفسها لخطر التفكك الدائم.
هذه الاختلالات ليست محايدة. فهي تُغذّي شعورا بالإهمال، وتُفاقم الفوارق الاجتماعية، وتُعيق تحقيق وعود الجهوية المتقدمة الهادفة إلى تحقيق التوازن التنموي. وهكذا، يبدو المغرب بلدا ذا سرعتين: سرعة المدن الكبرى الدينامية المتصلة بالعالم، وسرعة المناطق النائية التي لا تزال أسيرة نموذج اقتصادي هش.
هذا، دون أن ننسى الفجوات الأخرى التي تنتشر في كل المناطق: الفوارق بين المناطق الحضرية والقروية؛ المناطق الجبلية أو السهلية؛ الرجال والنساء؛ الشباب والكهول. إن محاربة التفاوتات مهمة صعبة تحتاج إلى جهد جهيد.