عزيز الحنبلي -تنوير
أكدت وزارة الخارجية الأميركية في تصريح خاص لموقع أطلس إنسايت أن الولايات المتحدة لا تنوي إطلاق أي مبادرة وساطة بين المغرب والجزائر في الوقت الراهن، معتبرة أن العلاقات بين البلدين تبقى شأناً يخص حكومتيهما، في حين جددت تمسكها بموقفها الثابت من قضية الصحراء المغربية، والمتمثل في اعتبار مقترح الحكم الذاتي هو الإطار الوحيد للحل العادل والدائم. هذا الموقف يعكس بوضوح أن واشنطن تفضل الإبقاء على مسافة متوازنة في الخلافات الثنائية بين الرباط والجزائر، لكنها في المقابل تتبنى رؤية واضحة وحاسمة فيما يتعلق بملف الصحراء.
تجديد الموقف الأميركي لم يأت من فراغ، بل يندرج في سياق استراتيجي أوسع. فمنذ إعلان الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب اعتراف بلاده بسيادة المغرب على الصحراء في دجنبر 2020، حرصت الإدارات الأميركية المتعاقبة على تثبيت هذا التوجه باعتباره خياراً يخدم مصالح الولايات المتحدة في شمال إفريقيا والساحل، حيث تشكل قضايا الأمن الطاقي ومكافحة الإرهاب وضبط الاستقرار الإقليمي أولوية قصوى لواشنطن. إعادة وزير الخارجية ماركو روبيو التأكيد على هذا الموقف، وتصريحات مسعد بولس، مستشار الرئيس الأميركي، من قلب الجزائر يوم 27 يوليوز 2025، التي شدد فيها على أن الحكم الذاتي يمثل الإطار الوحيد للتفاوض، تعكس أن واشنطن لم تترك مجالاً للتأويل أو المراهنة على تغيير موقفها.
الرسائل الموجهة للجزائر كانت واضحة وصريحة. فبمجرد أن اختار بولس التطرق إلى ملف الصحراء خلال لقائه مع الرئيس عبد المجيد تبون ووزير الخارجية أحمد عطاف، ثم التصريح علناً لصحيفة الوطن الجزائرية بتمسك الولايات المتحدة باعترافها بسيادة المغرب على الصحراء، بدا أن واشنطن تسعى إلى قطع الطريق أمام أي محاولات جزائرية للضغط أو استثمار التوترات الإقليمية من أجل تغيير قواعد اللعبة. بالنسبة للإدارة الأميركية، الحكم الذاتي ليس مجرد مقترح سياسي مغربي، بل هو مبادرة “جدية وذات مصداقية وواقعية”، تشكل أساساً وحيداً لأي تسوية مستقبلية، وهو ما يضع الجزائر في موقف دفاعي على الساحة الدبلوماسية الدولية.
من جهة أخرى، يحمل الموقف الأميركي انعكاسات مهمة بالنسبة للمغرب. فهو يوفر دعماً دبلوماسياً قوياً يعزز شرعية مبادرة الحكم الذاتي ويكرسها كمرجعية دولية. كما يمنح الرباط رصيداً إضافياً في جهودها الرامية إلى إقناع شركاء آخرين، خاصة في الاتحاد الأوروبي والاتحاد الإفريقي، بضرورة تبني مقاربة واقعية لإنهاء النزاع. ومن المؤكد أن استمرار واشنطن في هذا الخط السياسي سيؤثر على قرارات دول أخرى مترددة، وقد يشجعها على فتح قنصليات جديدة في مدينتي العيون والداخلة، بما يرسخ الاعتراف بالسيادة المغربية على أقاليمه الجنوبية.
في المقابل، فإن تجنب الولايات المتحدة لعب دور الوسيط بين المغرب والجزائر يعكس إدراكها لصعوبة معالجة الخلافات الثنائية المتجذرة بين البلدين، والتي تتجاوز ملف الصحراء إلى صراعات تاريخية وأيديولوجية مرتبطة برؤية كل طرف لدوره في المنطقة. واشنطن تدرك أن أي محاولة وساطة قد تضعها في موقع محرج، وتجعلها هدفاً لانتقادات أحد الطرفين. لذلك تفضل التركيز على ما تعتبره أولويات استراتيجية، أي دعم المغرب في قضيته الوطنية الأولى، والحفاظ على علاقات عملية مع الجزائر تضمن التعاون في ملفات الأمن الإقليمي والطاقة والحدود الجنوبية للمتوسط.
على الصعيد الإقليمي، يرسل الموقف الأميركي إشارة قوية إلى الاتحاد الأوروبي الذي يعيش بدوره انقساماً بشأن التعامل مع ملف الصحراء. ففي الوقت الذي تؤيد فيه دول مثل إسبانيا وألمانيا صراحة مبادرة الحكم الذاتي، تظل دول أخرى متحفظة. غير أن استمرار واشنطن في الدفع بمقترح الحكم الذاتي كخيار وحيد قد يعزز تدريجياً من وزن الموقف الأوروبي الداعم للمغرب. أما على مستوى الاتحاد الإفريقي، فإن التأكيد الأميركي يعزز جهود الرباط الرامية إلى تحييد المنظمة القارية من النزاع، عبر تكريس مسار الحل في إطار الأمم المتحدة، وبمرجعية المبادرة المغربية.
إن الموقف الأميركي الأخير يعكس بوضوح ازدواجية محسوبة: دعم صريح وواضح للمغرب في ملف الصحراء، يقابله حياد في العلاقات الثنائية المغربية الجزائرية. هذه المقاربة تمثل في جوهرها خياراً استراتيجياً: الحفاظ على التوازن مع الجزائر، دون التفريط في دعم حليف استراتيجي مثل المغرب، الذي يمثل بالنسبة لواشنطن شريكاً موثوقاً في الاستقرار الإقليمي والأمن الطاقي ومكافحة الإرهاب. وهو ما يجعل من هذا الموقف نقطة تحول جديدة في مسار النزاع، حيث بات الحكم الذاتي المغربي أكثر من مجرد مبادرة، بل تحول إلى مرجعية دولية مدعومة من إحدى القوى الكبرى في العالم.