اخبار دولية

بكين تستعرض القوة وتعيد رسم التحالفات: قراءة تحليلية في دلالات العرض العسكري الكبير (3 سبتمبر 2025)

 بقلم: هشام فرجي

نظمت بكين عرضًا عسكريًا ضخماً في ساحة تيانآنمن بتاريخ 3 سبتمبر 2025 بمناسبة الذكرى الثمانين لانتهاء الحرب العالمية الثانية، حضره قادة بارزون بمن فيهم شي جين بينغ وفلاديمير بوتين وكيم جونغ أون، ورافقت المناسبة رسالة سياسية عريضة تحمل بعدًا دبلوماسيًا واستعراضًا تقنيًا وعسكريًا. هذه الورقة تُحلّل دوافع بكين، والمضمون العسكري والسياسي للعرض، وردود الفعل الإقليمية والدولية، والسيناريوهات المتوقعة وتأثيراتها على التوازن الدولي.

1. خلفية الحدث

أقيم العرض في ساحة تيانآنمن أمام أكثر من 50 ألف متفرج وشاهدته وسائل إعلام عالمية. استعرضت خلاله القوات تكنولوجيا عسكرية متقدمة (طائرات ومسيّرات جوية وتحت مائية، صواريخ فرط صوتية، وحتى وحدات روبوتية مسلحة)، بينما ألقى الرئيس شي كلمة مركزية قال فيها إن “الإنسانية اليوم أمام خيار: سلام أم حرب، حوار أم مواجهة”، مؤكّدًا أن الصين “تقف على الجانب الصحيح من التاريخ”. وقد حضر العرض كل من بوتين وكيم إلى جانب قادة من دول أخرى، ما أعطاه طابعًا دوليًا واستراتيجيًا يتجاوز الاحتفال التاريخي.

2. دوافع بكين: لماذا الآن وبهذا الحجم؟

الرسالة الداخلية: تعزيز الشرعية الوطنية والاحتفاء بذكرى مهمة لتوطيد السرد الوطني حول مقاومة الاستعمار والقوة القومية.

 الرسالة الخارجية/الردع: إظهار قدرة عسكرية متنامية ومخاطبة جمهور دولي مفادها أن الصين إضافة إلى كونها قوة اقتصادية هي كذلك قوة عسكرية قادرة على الدفاع عن مصالحها.

التحالفات الرمزية: تهدف دعوة أو استقبال قادة مثل بوتين وكيم إلى تكوين لوحة دبلوماسية تُظهر تماسكًا بين دول تعارض الهيمنة الغربية/الأميركية على النظام الدولي. إذ يحمل هذا البُعد قيمة رمزية بقدر ما يحمل دلالات استراتيجية.

3. البُعد العسكري والتقني: ماذا رُوِّج وما الدلالات؟

لم يقتصر الاحتفال على عرض الطقوس المعتادة للجنود، بل ركّز على معدات جديدة: صواريخ فرط صوتية، طائرات نفاثة من الجيل الجديد، مركبات غوص ومسيّرات تحت مائية، منظومات مضادة، ومركبات أرضية ذاتية التشغيل سُوِّقَت على أنها “روبوتات قتال”… هذا التصنيف يوحي بأن بكين تريد إظهار تقدم تكنولوجي في مجالات ستشكل قواعد الصراع المستقبلي (السرعة، السيادة البحرية، والروبوتات/الأنظمة المستقلة). كما أنه على المستوى العملي، تحسّن مثل هذه القدرات قدرة الصين على المناورة الاستراتيجية والردع بعيد المدى.

4. الدلالة الدبلوماسية: لماذا حضور بوتين وكيم مهم؟

لا يقتصر وجود بوتين وكيم معًا إلى جانب شي على صورة إعلامية؛ بل يشير إلى:

تعزيز القنوات الثنائية: تعاون أوسع في مجالات سياسية وعسكرية واقتصادية بين عواصم تبحث عن بدائل للسياسات الغربية.

إرسال إشارة للولايات المتحدة وحلفائها: مفادها أن المجتمع الدولي أمام تشكيلات نفوذ بديلة للقيم والسياسات الغربية التقليدية.

5. ردود الفعل الدولية: الولايات المتحدة واليابان نموذجًا

أ. الموقف الأمريكي

رسائل نقد وتحذير: اعتبرت واشنطن أن العرض العسكري الصيني ليس استحضارا لذكرى تاريخية، وإنما هو بمثابة استعراض قوة موجّه ضد النظام الدولي القائم. أما المسؤولون الأمريكيون فوصفوا مشاركة بوتين وكيم بأنها “رسالة رمزية ضد الغرب” تعكس محاولة بناء محور مضاد للولايات المتحدة وحلفائها.

البعد الاستراتيجي: أكدت الإدارة الأمريكية التزامها بتعزيز تحالفاتها في منطقة المحيطين الهندي والهادئ (AUKUS، QUAD) مع رفع مستوى التنسيق الدفاعي مع اليابان وكوريا الجنوبية والفلبين.

الرد السياسي والدبلوماسي: وقد شددت واشنطن على أن “السلام في المحيطين الهندي والهادئ” يتطلب مواجهة ما وصفته بـ”النزعة التوسعية” لبكين، مع استمرار سياسة “المنافسة الاستراتيجية المدارة” بدل الدخول في مواجهة مباشرة.

ب. الموقف الياباني

قلق متزايد: رأت طوكيو أن استعراض الصواريخ الفرط صوتية والمسيّرات تحت المائية يعكس تهديدًا مباشرًا لأمنها القومي، خصوصًا في ظل التوترات حول جزر سينكاكو.

التوجه نحو التسلح: أعادت الحكومة اليابانية التأكيد على خطتها لرفع الإنفاق الدفاعي إلى أكثر من 2% من الناتج المحلي الإجمالي بحلول 2027، مع تعزيز التعاون مع واشنطن في مجالات الدفاع الصاروخي والقدرات البحرية.

الخطاب الرسمي: فرغم القلق، شددت طوكيو على أهمية الحفاظ على الحوار مع بكين لمنع التصعيد، لكنها حذّرت من أن “التحالفات الاستعراضية” بين الصين وروسيا وكوريا الشمالية قد تُقوّض استقرار المنطقة.

6. سيناريوهات مستقبلية وتأثيرها المحتمل

1. تكثيف تقارب استراتيجي (السيناريو الأساسي المحتمل): استمرار التعاون السياسي والاقتصادي بين بكين وموسكو (وربما بيونغ يانغ) بما يؤدي إلى شبكات بديلة للتجارة والدفاع. وهذا ما قد يُعقّد خيارات الغرب ويلزمه نهج استراتيجيات توازن جديدة.

2. فشل في تحويل الرمزية إلى تأثير عملي: إذا بقي التحالف رمزيًا دون اتفاقيات تنفيذية واسعة، فستبقى تداعياته محدودة وتكون استجابة الدول الأخرى أقل حدة.

3. سباق تسلح إقليمي متجدد: قد يدفع الاستعراض بعض الدول الآسيوية إلى تسريع تحديثاتها العسكرية ورفع الإنفاق الدفاعي، ما يزيد احتمالات التوترات الإقليمية.

7. توصيات عملية قد ينهجها صانعو القرار (خارج الصين)

للغرب والولايات المتحدة: تبنّي مزيج من الردع الذكي والدبلوماسية المفتوحة؛ والحفاظ على تحالفات موثوقة وتقديم بدائل اقتصادية ودبلوماسية للدول الصغيرة كي لا تقع في محاور مضادة.

لدول الجوار الآسيوي (اليابان، كوريا الجنوبية، دول جنوب شرق آسيا): تعزيز آليات التواصل الإقليمي والاعتماد على دبلوماسية التخفيض من التصعيد، مع مراجعة خطط الطوارئ والقدرات البحرية/الجوية.

للمؤسسات الدولية والأطراف الاقتصادية: مراقبة المخاطر التي قد تنجم عن تضييق المساحات الدبلوماسية أو فرض قيود على سلاسل التوريد، والعمل على آليات تجارية وسياسية تبقي قنوات التعاون مفتوحة.

 خاتمة

إن عرض بكين في 3 سبتمبر 2025 تعدى كونه احتفالا تاريخيا؛ إلى إعلان طموح سياسي وعسكري. وتوجيه دعوة الحضور لقادة مثل بوتين وكيم جعلت من المناسبة منصة لرسائل جيو-سياسية قوية تُذكر العالم بأن الخريطة الدولية في حالة تحوّل مستمر. وستحدّد الردود العملية الآن ما إذا كان هذا الحدث نقطة بداية لتحالفات أقوى أو فقط عبارة عن فصل رمزي في رواية صاعدة للصين على المسرح العالمي.

لكن ردود الفعل الأمريكية واليابانية تكشف أن العرض لم يُقرأ كحدث تاريخي عادي وإنما اعتبر كخطوة استراتيجية تحمل رسائل ردع وإعادة تشكيل للخريطة الأمنية. وقد يؤدي هذا إلى تصعيد سباق التسلح الإقليمي وإعادة تموضع استراتيجي لقوى كبرى في آسيا، ما يزيد من هشاشة التوازنات الأمنية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى