متى نحول انتخاباتنا من سوق لبيع وشراء الذمم إلى استحقاقات ديمقراطية نزيهة؟

بقلم: الأستاذ نجيب خياط
توصلتُ بشريط صوتي يرجع تاريخه للانتخابات السابقة ، أشبه ما يكون بنافذة على سوق مظلم. مسؤولون يتحدثون ببرودة عن شراء المستشارين، يحددون الأسعار كما لو كانوا يتبادلون أثمان الماشية. مئتا ألف درهم للرأس الواحد، وخمسون مستشارًا دفعة واحدة معروضون للبيع. رئيس بلدي لا يتردد في عرض مستشاره لحزب آخر، فقط ليمنع خصمه من الفوز.
في الجولة الأولى من الاستماع يبدو الشريط فضيحة مدوية بكل المقاييس. لكن سرعان ما ندرك أن ذاكرتنا قصيرة جدًا؛ فنحن نعرف سلفًا أن أغلبية هؤلاء المستشارين لم يصلوا إلى المجالس ولا إلى البرلمان نتيجةً للمال الحرام وشراء الضمائر. هي إذن ليست مفاجأة، بل مجرد حلقة إضافية في مسلسل قديم: مؤسسات تُفرِّخ الفساد وتتكاثر كما يتكاثر العفن.
ومع ذلك، نكتفي نحن المواطنين بإنزال وابل من السبّ والشتم، كأننا نبحث عن تبرئة أنفسنا من تهمة المشاركة بالصمت. ثم نلجأ إلى الدعاء على الفاسدين بالحساب الأخروي، كأننا سلّمنا أمر الدنيا للآخر يائسين من تدخل الدولة الدُّنيوية. هذا النفاق، وهذا الضعف المواطناتي، هو الذي يضمن إعادة إنتاج الفساد، ويُفقد الثقة، وينمي اليأس داخل المجتمع.
حتى أداء الأحزاب السياسية في تأطير الشارع صار يحتضر؛ فهي لم تعد تمتلك إلا مشروعًا انتخابيًا معطوبًا، قائمًا على حسابات المقاعد وصفقات الكواليس بدل أن يكون مشروعًا مجتمعيًا حيًا. لقد تحولت من فضاء للتأطير والوعي إلى مجرد دكاكين انتخابية وللمزايدات السياسية الصفراء، تفتح أبوابها موسم الاقتراع ثم تُغلق على نفسها في سبات طويل.
أما الدولة، فيبدو وكأن ما يعنيها أساسًا هو تمرير استحقاقات موجّهة سلفًا، والحرص على احترام التواريخ الانتخابية كطقوس بروباغاندية، لتُقدِّم للعالم صورة عن استقرارها واستمراريتها. المهم عندها أن تظل الواجهة قائمة، حتى وإن كان الداخل ينهشه الفساد وتغيب فيه الثقة.
والمفارقة أن دولًا إفريقية عاشت مثلنا بل أسوأ، تجرأت على إصلاح أنظمتها الانتخابية ونجحت:
غانا، بعد سنوات من الانقلابات والفساد، أنشأت لجنة انتخابية مستقلة حازت ثقة واسعة، فصار انتقال السلطة بين الأحزاب يتم بسلاسة.
السنغال، رغم التوترات، فرض المجتمع المدني والإعلام حدًا أدنى من الشفافية جعل الانتخابات قابلة للتنافس الحقيقي.
جنوب إفريقيا بعد الأبارتهايد أسست لجنة قوية ومستقلة، مكّنت من بناء ثقة شعبية واسعة في المسلسل الديمقراطي.
هؤلاء لم يكتفوا بالسب والشتم ولا بالدعاء على الفاسدين، بل فرضوا مؤسسات قوية وصاغوا آليات مراقبة تُحاصر الفساد منذ تسجيل الناخبين إلى إعلان النتائج.
أما نحن، فما زلنا نراوح مكاننا بين شريط يفضح وسخط عابر في المقاهي، بينما تستمر آلة الفساد في طحن ما تبقى من الثقة في السياسة.
لكن لا شيء سيتغير بالدعاء أو الشتائم وحدها. على كل مواطن أن يتحلى بقوة الرفض وشجاعة التغيير، وأن يرفض الصمت، ويعيد للسياسة معناها وللانتخابات شرفها. حين يتحرك المجتمع بمسؤولية، فقط حينها سينهار جدار الفساد ويُفتح أفق جديد للأمل.
*ك