أخبار وطنية

سقوط حكومة بايرو: قراءة في أزمة الجمهورية الخامسة و مصير العقلنة البرلمانية

الأستاذ: مصطفى المنوزي
1. حدث استثنائي في سياق استثنائي
إن سقوط حكومة فرانسوا بايرو بعد تصويت الجمعية الوطنية بحجب الثقة (364 ضد و194 مع) ليس مجرد حدث عابر في التاريخ السياسي الفرنسي، بل هو محطة فارقة تكشف عن اهتزازات عميقة في بنية النظام السياسي للجمهورية الخامسة. لأول مرة منذ 1958، تعجز حكومة عن الحفاظ على ثقة البرلمان، رغم أن النظام صُمم أصلاً ليجعل السلطة التنفيذية، خصوصًا رئيس الجمهورية، في موقع قوة شبه مطلقة.
2. البعد الدستوري: اهتزاز “الاستثناء الديغولي”
أراد الجنرال ديغول عند صياغة دستور 1958 أن يحصّن السلطة التنفيذية ضد تقلبات البرلمان التي طبعت الجمهوريات السابقة. وقد مُنحت لرئيس الجمهورية سلطات واسعة لتفادي “عدم الاستقرار الوزاري”. لكن سقوط حكومة بايرو يطرح سؤالًا جوهريًا: هل ما يزال النموذج الديغولي قادرًا على الصمود أمام الضغوط الحزبية والانقسامات المجتمعية؟
3. الأزمة الديمقراطية والتمثيلية
النتيجة الكاسحة ضد الحكومة تعبّر عن أكثر من مجرد رفض برنامج سياسي؛ إنها انعكاس لأزمة تمثيل أعمق:
انعدام الثقة بين النخب السياسية والقاعدة الشعبية، وهو ما تبلور في احتجاجات “السترات الصفراء” وأزمات التضخم.
تآكل الوساطة الحزبية: لم تعد الأحزاب قادرة على إنتاج توافقات مستقرة، بل تحولت إلى جزر متنافرة تشتغل بمنطق المزايدة.
انقسام داخل الأغلبية الرئاسية نفسها، إذ لم تعد قادرة على توفير شبكة أمان سياسي لرئيس الوزراء.
4. تداعيات على موازين القوى
سقوط حكومة بايرو سيؤدي حتمًا إلى إعادة ترتيب المشهد:
المعارضة اليسارية ستسعى إلى تعزيز خطابها الاجتماعي كبديل جدي، أما اليمين التقليدي واليمين المتطرف سيستثمران الحدث لإظهار فشل “المركزية الماكرونية”؛ مما يطرح احتمالية انتخابات تشريعية مبكرة تلوح في الأفق إذا تعذّر تشكيل أغلبية صلبة، مما سيزيد من درجة المخاطرة السياسية لماكرون.
5. الأبعاد الرمزية والتحول في الثقافة السياسية
إن فشل الحكومة تحت رقابة البرلمان يعيد فرنسا، جزئيًا، إلى منطق “البرلمانية الكلاسيكية” التي كان ديغول يعتبرها سبب الضعف والفوضى في الجمهورية الرابعة. هذا التحول الرمزي يعني أن البرلمان لم يعد مجرد غرفة تسجيل للخيارات الرئاسية، بل أصبح فاعلًا مركزيًا يعيد فرض نفسه على ساحة القرار السياسي.
6. الاستشراف: نحو تعديل دستوري أم إعادة هندسة سياسية؟
السيناريو الأول: أن ينجح ماكرون في إعادة تشكيل حكومة توافقية تُعيد بعض الاستقرار، مع الحفاظ على قواعد اللعبة الديغولية.
السيناريو الثاني: أن يدخل النظام الفرنسي في أزمة مؤسسية ممتدة، بما يفرض نقاشًا واسعًا حول ضرورة تعديل الدستور أو الانتقال إلى “الجمهورية السادسة”.
السيناريو الثالث: أن تتسع رقعة عدم الاستقرار، بما يعيد فرنسا إلى حالة من المراوحة بين الشرعية البرلمانية والشرعية الرئاسية.
من هنا فإن سقوط حكومة بايرو ليس حدثًا إجرائيًا فحسب، بل مؤشر على أزمة عميقة في بنية النظام السياسي الفرنسي: أزمة شرعية، أزمة تمثيل، وأزمة ثقة. فالجمهورية الخامسة، التي بُنيت على توازن مائل لصالح الرئاسة، تجد نفسها لأول مرة مهددة بالعودة إلى منطق التعددية البرلمانية المتنازعة. إنها لحظة مفصلية قد تحدد ملامح مستقبل الديمقراطية الفرنسية بين خيارين: إما إعادة الترميم المؤقت، أو الشروع في هندسة دستورية جديدة تفتح الباب أمام “جمهورية سادسة”.
من باب الاستشراف: إلى أين تتجه “العقلنة البرلمانية”؟
إن سقوط حكومة بايرو لا يضع فقط علامة استفهام حول متانة النظام الرئاسي–البرلماني في فرنسا، بل يعيد أيضًا إحياء النقاش حول جدوى “العقلنة البرلمانية” التي شكّلت حجر الزاوية في دستور 1958. فإذا كانت هذه العقلنة قد وُلدت كأداة لتأمين الاستقرار التنفيذي وتحصين الحكومة من تقلبات الأغلبية، فإن ما جرى يبيّن أن فعاليتها أصبحت نسبية أمام تحولات الخريطة الحزبية والأزمات الاجتماعية المتفاقمة.
وقد يقود هذا التحول إلى أحد مسارين:
إما مزيد من التشديد الدستوري في محاولة لإنعاش العقلنة عبر منح السلطة التنفيذية أدوات إضافية، أو تآكل تدريجي للعقلنة أمام ضغط البرلمان وصعود النزعة التمثيلية المباشرة، بما قد يفتح الباب نحو برلمانية أكثر كلاسيكية. لكن الدرس الأعمق هو أن العقلنة ليست مجرد تقنية دستورية، بل هي بالأساس ثقافة سياسية تقوم على التوافق والثقة المتبادلة بين الفاعلين. من دون تجديد للوساطة الحزبية، ومن دون إعادة بناء الشرعية التمثيلية، ستظل العقلنة البرلمانية حبراً على ورق، وسيجد النظام السياسي نفسه
مضطراً إلى التفكير في إعادة هندسة أوسع قد تمهّد للجمهورية السادسة.
رئيس أكاديمية الحكامة التشريعية والأمن القضائي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
رئيس أكاديمية الحكامة القضلئية والامن القضائي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى