الرجال أيضا يبكون لكن بكاءهم لا يُرى

بقلم: الأستاذ سعيد حجي
في زمن الجراح الكبرى، لم يعد البكاء فعلا مرتبطا بالدموع، بل صار طقسا داخليا، خفيا، لا تلتقطه الكاميرات ولا تترجمه الكلمات. صار البكاء وجعا متخفيا خلف ضحكات مصطنعة، خلف نكتة متأخرة تُلقى في مساء باهت، على طاولة خشبية قديمة، يتقاسمها رجال لم يتقاسموا سوى الخسارات…
الوجوه نفسها التي كانت تقاتل النهار بابتسامة متعبة، باتت تستعير من الليل وحدته لتبوح. تجاعيدهم لم تكن يوما علامات عمر، بل خرائط كاملة لحياة من الانكسارات، حفرها الفقد والمآسي، وسوّتها المقابر…
الرجال لا يبكون كما نتصور، لا يصرخون، لا ينهارون في الأسواق، ولا يركضون باحثين عن حضن. هم فقط يصمتون. ويكتفون بنظرة شاردة الى الأفق، كمن يحاول أن يقنع نفسه بأن الحياة لا تزال قابلة لأن تُعاش…
في أحد مقاهي المدينة، وبين ضجيج أكواب الشاي، تسمع فجأة ضحكة عالية. رجل يروي طرفة. الجميع يضحك. لكنك حين تنظر الى عيونه، ترى وجعا يسكنها. ليس ألما عابرا، بل حزنا متراكما، يثقل الأجفان، ويقود النظرة الى هاوية لا قاع لها.
كما كتب بيير سانسو ذات مرة: “الضحك في زمن الفجيعة ليس خيانة، بل آلية دفاع ضد الجنون”… نعم، في قلب المأساة، لا تملك إلا أن تضحك لتقاوم، أن تسخر كي لا تنكسر، أن تتظاهر بأنك بخير، لأن الاعتراف بالانهيار يحتاج شجاعة لا يملكها الجميع.
الرجل الذي يهمس لصديقه عن حلمه الليلة الماضية، عن والده الذي رآه في المنام، عن رائحة منزله القديم الذي صار اليوم كومة حجارة، ليس بحاجة الى تعاطفك، هو فقط يريد أن يقول شيئا كي لا يختنق…
المجتمعات التي مرت بكل هذا الفقد، لم تعد كما كانت. حتى الضحك فيها تغير. لم يعد بريئا. صار مزيجا من التحدي والمرارة. كما كتب رايموند آرون: “المدن التي تبكي كثيرا، تصبح خطرة على ذاكرتك، قد تسحبك فجأة الى قاعها دون أن تدري”…
في الليالي المظلمة، ليست الأرصفة ولا الكراسي من يحتفظ بالوجع، بل الوسائد. تلك القطع القطنية البسيطة، الشاهدة الوحيدة على صرخات مكتومة، على دموع هربت من بين الجفون، على أمنيات لم تكتمل، وأسماء تُردد بصوت خافت حتى لا يسمعها أحد.
هكذا تبكي المدن. ليس على العلن، بل على انفراد. تبكي في غرف النوم، خلف الستائر، في المرايا، وفي الرسائل التي لم تُرسل قط…
ايها العالم، لسنا بخير. ولسنا بخير منذ زمن. لكننا نتظاهر. كما يتظاهر الرجال بأن النكتة تضحكهم، بينما هي فقط تلهيهم عن وجع لا دواء له…
لذلك، حين تجد رجلا ينظر من النافذة بصمت، لا تقاطعه. لعله يتحدث الى الذين رحلوا. او الى الجزء من روحه الذي تركه في ركام بيت، او في صدر ام لم تصرخ بعد..
الرجال ايضا يبكون يا صديقي. فقط، بكاؤهم لا يُرى..