جان فرانسوا كيرفيجان: ما هو المطلق في المعرفة المطلقة؟ (الجزء السادس والأخير)

أحمد رباص ـ تنوير
لنلاحظ أن الاستدلال نفسه، مع مراعاة ما يلزم، سيقود الفصل الأخير من “علم المنطق” إلى استحضار، في نهاية الوساطات المنطقية-المفاهيمية، استعادة المباشرية (في هذه الحالة، مباشرية الوجود الخالص)، بحيث تكون نتيجة العملية المنطقية “هي نفسها شيئا يشبه ما حُدد كنهاية بادئة [das Anfangende]”. لكن في كلتا الحالتين، يختلف المباشر الثاني في كل شيء عن الأول، لأنه “مباشرية بقدر ما هي وساطة”، مباشرية وسيطة.
ومع ذلك، يُتابع هيجل قائلاً: “هذا الاغتراب [العودة إلى نقطة انطلاق المسار الفينومينولوجي] ما يزال ناقصا”، تحديدا بسبب طابعه الرجعي. لذا، يجب أن نتصور اغترابا أكثر جذرية للمعرفة المنطقية-التأملية، اغترابا لا يقود إلى ما دونها، بل إلى ما وراءها، بل حتى، إذا جاز التعبير، نحو ما وراء مزدوج، نحو “صيرورة الروح” المزدوجة: من جهة (الفقرة 20)، الطبيعة، المُعرّفة هنا بأنها “الروح المُغتربة” في العنصر الزمكاني؛ ومن جهة أخرى (الفقرة 21)، التاريخ المفهوم على أنه عودة الروح إلى ذاتها في عنصر زمني لم يعد ماديا، بل روحانيا بالمعنى الحرفي. ليس من الصعب أن ندرك في هذا الدافع، أي الاغتراب المزدوج للعلم أو المعرفة المطلقة، استباقا لبنية النسق القادم، مُضيفا إلى المنطق “علم الفكرة في ذاتها ولذاتها”، وفلسفة الطبيعة وفلسفة الروح. بهذه الطريقة، يُمكننا أن ندرك في هذه الفقرات الأخيرة عرضا تخطيطيا مُتوقعا لبنية النسق، كما يتخيله هيجل آنذاك، انطلاقا من مركزه المنطقي، مكان المعرفة المطلقة أو “الفلسفة التأملية”: أقل من ذلك، فينومينولوجيا الروح (“علم المعرفة الذي يظهر”) التي يعود مسارها إلى نقطة انطلاقها؛ وتليها “العلوم الحقيقية” للطبيعة والروح، كما سبق استكشافها في مخطوطات يينا، وسيتم عرضها “بإيجاز” في “موسوعة العلوم الفلسفية”.
لا بد لنا، لكي نختم، من الانكباب على الفقرة الأخيرة، بالغة الكثافة، من النص، والمخصصة للعلاقة بين “المفهوم المطلق” – لنقل: الفضاء المنطقي-التأملي الذي أتاحت الفينومينولوجيا الوصول إليه – والتاريخ. ولعل صعوبة هذه الفقرة تكمن في أن هيجل، باستخدامه كلمة “تاريخ” (Geschichte)، هدف، في سياق الفينومينولوجيا، إلى شيئين متمايزين: “التاريخ العلمي للوعي” ، أي المسار الفينومينولوجي نفسه، باعتباره “تاريخا” لموضوع المعرفة، والتاريخ ببساطة، أي التاريخ “الموضوعي” للعالم.
هذا ليس لبساً ولا خلطاً: إن الفينومينولوجيا تثبت بدقة، في الفصل السادس، أن تاريخ الوعي، كما تعهدت الفصول الأولى بتتبعه، ليس منفصلاً عن تاريخ العالم، عندما يتم تفسير الأخير (وهو ما يفعله الفصل الرابع من خلال فحص “شخصيات معينة من عالم [تاريخي]”، وهو ما ستفعله فلسفة التاريخ الهيجلية بشكل منهجي)، كتاريخ للروح “المغتربة عبر الزمن” والتي تصل، بفضل “اغتراب [هذا الاغتراب]”، إلى مفهومها الخاص، أي إلى هذا الموقف من المعرفة الذي هو المعرفة المطلقة، وبعبارة أخرى إلى “الروح التي تعرف نفسها كروح”، أو مرة أخرى إلى ” المفهوم المطلق”.
ما يُطلق عليه هيجل، على نحوٍمُبهم، “التاريخ المُتصوَّر” هو اقتران هذين التاريخين اللذين يُشكِّلان معا نشأة المعرفة الخالصة، المثالية والواقعية، وفضاء التأمل الفلسفي الذي، وإن كان يُلغي التاريخية والزمانية، إلا أنه يُحافظ على ذاكرة هذا التاريخ المزدوج الذي هو ذاته. إن “الاستبطان” (وهيجل هو من اختار هذا التعبير)، أو “استعادة الذاكرة”، هو “استيعاب” هذا التاريخ، بمعنى أنه، في الوقت نفسه، يمحوه ويُفكِّر فيه. “التاريخ المتصور” (بفضل عمل المفهوم) هو في الوقت نفسه “الذاكرة [Erinnerung]” والجلجثة* (وفقًا للترجمة التي اقترحها جان بيير لوفيفر ) للروح المطلقة، لأن هذا الأخير لا ينسى شيئا من ماضيه (تاريخ الوعي، تاريخ العالم) في نفس الوقت الذي يلغي فيه هذا الماضي، ويضحي به على مذبح المعرفة الخالصة، التي لا تكون كذلك إلا بفضل عمل الذاكرة والنسيان.
بدلاً من التعليق على اقتباس شيلر (المحرّف عمدا) الذي يختتم به كتاب “فينومينولوجيا الروح”، دعونا نلاحظ أنه من عادات هيجل تقريبا أن يترك الكلمة الأخيرة لغيره: هنا لشيلر، أو لأرسطو في “الموسوعة”. ربما تكون هذه طريقة للتأكيد على أن الفكر ليس ملكا لأحد، ولا حتى لنفسه. ولنتذكر أخيرا هذا التعريف الموجز للمعرفة المطلقة الذي سيُقدّم في “دروس تاريخ الفلسفة”: “إن معرفة التناقض في الوحدة، والوحدة في التناقض، هي المعرفة المطلقة، والعلم هو أن يدرك المرء بنفسه هذه الوحدة في تطورها الكامل”.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) الجلجثة مكان صلب المسيح