بقلم عزيز الحنبلي
كتب ليش فاليسا – رئيس بولندا الأسبق، رفقة مجموعة من المعتقلين السياسيين السابقين في الثالث من مارس 2025 رسالة من ما جاء فيها “لقد أثارت محادثة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مع نظيره الأوكراني فولوديمير زيلينسكي صدمة عميقة في نفوسنا نحن الذين خبرنا قسوة الأنظمة الشيوعية في أوروبا الشرقية. تابعنا الحوار بامتعاض، إذ بدا وكأنه استجواب مهين أكثر منه لقاء بين رئيسين في معركة وجودية من أجل الحرية.
ترامب، وهو على رأس دولة لطالما قُدّمت للعالم باعتبارها رمز الديمقراطية وقائدة العالم الحر، تعامل مع أوكرانيا وكأنها مطالبة بـ”الامتنان” مقابل المساعدات الأمريكية، متناسياً أن الأوكرانيين هم الذين يدفعون الثمن الأغلى: دماء أبنائهم الذين يسقطون منذ أكثر من عقد دفاعاً عن الاستقلال وعن قيم الحرية.
ما أزعجنا أكثر هو أن أسلوب الرئيس الأمريكي أعاد إلى أذهاننا جلسات التحقيق أمام أجهزة الأمن الشيوعية. حينها كان المدّعون والقضاة يلوّحون بسلطتهم المطلقة ويطالبوننا بالكف عن نشاطنا السياسي بحجة أن الأبرياء يعانون بسببنا. كانوا يسلبوننا حرياتنا وحقوقنا، ويطالبوننا في المقابل بأن نظهر “امتناناً” لجلادينا. واليوم، نرى الرئيس زيلينسكي يُعامل بروح مشابهة داخل المكتب البيضاوي!
التاريخ الأمريكي نفسه يثبت أن التخلي عن القيم الديمقراطية كان دائماً يكلّف غالياً. الرئيس وودرو ويلسون أدرك ذلك عام 1917 عندما قرر دخول الحرب العالمية الأولى لحماية أوروبا والعالم الحر. فرانكلين روزفلت فهم الأمر ذاته بعد بيرل هاربر، فقاد بلاده لمحاربة النازية إلى جانب الحلفاء.
أما رونالد ريغان، فقد اختار مواجهة الاتحاد السوفيتي باعتباره “إمبراطورية الشر”، وكان لموقفه الحاسم فضل كبير في سقوط المنظومة الشيوعية. واليوم، يقف تمثاله شامخاً في وارسو، تذكاراً لعظمة رؤية سياسية قائمة على الوضوح والشجاعة.
إننا نرفض المقارنة بين المال والسلاح الممنوح وبين الدماء التي تُراق على الجبهة. لا شيء يعادل التضحية الإنسانية. أوكرانيا لا تطالب بأكثر من حقها في الدفاع عن نفسها وعن أوروبا، والولايات المتحدة ملزمة أخلاقياً وقانونياً بميثاق بودابست لعام 1994 الذي نص بوضوح على حماية وحدة أوكرانيا مقابل تخليها عن ترسانتها النووية.
هذه ليست صفقة تجارية، بل معركة قيم ومصير. العالم الحر مدين للشعب الأوكراني بتضحياته، والولايات المتحدة مطالبة بالوقوف إلى جانبه لا بتوبيخه. فالتاريخ لا يرحم من يتخلى عن حلفائه ساعة الشدة، ولا من يساوم على الحرية وكأنها بضاعة في سوق السياسة.
ولا يمكننا ونحن نحلل رؤية الرئيس الأمريكي أن نتجاهل الشعب الفلسطيني، الذي يواجه منذ عقود آلة الاحتلال الإسرائيلي. فترامب لم يكتفِ بالانحياز الأعمى لإسرائيل، بل حاول فرض “صفقة القرن” التي لم تعترف بأبسط حقوق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم. إن من يطالب أوكرانيا بالامتنان ويتجاهل دماء الفلسطينيين التي تُسفك يومياً، إنما يكشف عن رؤية مشوّهة للحرية، تقوم على الانتقائية والمصالح الضيقة لا على القيم الإنسانية الجامعة. وهنا يظهر التناقض الصارخ: كيف يمكن لمن يزعم الدفاع عن العالم الحر أن يغض الطرف عن الاحتلال والقمع الممنهج للشعب الفلسطيني؟
إن معاناة الشعب الفلسطيني ليست قضية محلية أو نزاعاً حدودياً، بل هي اختبار حقيقي لمصداقية خطاب الغرب عن الحرية والديمقراطية. فحين تُمنح أوكرانيا دعماً عسكرياً وسياسياً واسعاً في مواجهة روسيا – وهو حقها المشروع – يُترك الفلسطينيون وحيدين في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي المدعوم أمريكياً. هذه الازدواجية تفضح منطق “الحرية الانتقائية” الذي يجسده ترامب بوضوح: الحرية قيمة تُرفع كشعار عندما تخدم المصالح، لكنها تُسقط عندما تتعارض مع حسابات النفوذ والتحالفات. إن دماء الفلسطينيين، مثل دماء الأوكرانيين، لا يمكن أن تكون أقل شأناً، بل هي صرخة متجددة ضد نظام عالمي يكيل بمكيالين.