وجهة نظر
المدرسة الرائدة: جدل السياسة التعليمية-الخبير التربوي عبد الرزاق بن شريج

عندما أكتب عن السياسة التعليمية، فأنا أتناول الخلفيات الفكرية والاختيارات الاستراتيجية التي تتحكم في المناهج والبرامج، لا تفاصيل الحصة الدراسية أو خطة الدرس. ومع ذلك، يلاحظ القارئ أنّ بعض التقنيين—مدرّسين أو مفتشين أو مهتمين بالديداكتيك—يسارعون إلى مناقشتي بمنطق تقني بيداغوجي: طريقة تقديم المفاهيم، دقة الأهداف، ملاءمة الوسائل.
لكن هذا ليس مجال النقاش الذي أقصده.
إن ما أبحث فيه هو من يقرر ولماذا:
ما الفلسفة التي تقف وراء تبنّي منهجية تدريسية بعينها؟
من يموّل مشاريع التعليم، محليًا أو دوليًا، وبأية دوافع اقتصادية أو سياسية أو ثقافية؟
كيف تُسخَّر تلك الاختيارات لخدمة توجهات مجتمعية بعيدة المدى؟
مشروع “المدرسة الرائدة” تحت المجهر
خذوا مثال “المدرسة الرائدة”.
كثيرون يقيسون نجاحها بتمكّن التلاميذ من الحروف والكلمات أو إتقانهم العمليات الحسابية. غير أن سؤالي مختلف: ما مآلات هذا المشروع على المدى البعيد؟
ماذا يخلّف من آثار تربوية وأخلاقية واجتماعية واقتصادية؟
أي نوع من المواطن أو المسؤول سينتج عن هذه التجربة بعد سنوات؟
فالمعطيات الرسمية نفسها تكشف عن حجم المشروع:
أكثر من 1.3 مليون تلميذ وتلميذة يستفيدون منه حالياً في مختلف جهات المملكة.
إدراج أكثر من 2,600 مدرسة ابتدائية ضمن التجربة، وقرابة 230 إعدادية في مرحلة التوسيع.
تقرير تقييم المرحلة التجريبية أظهر أن المعايير المعتمدة—من الأمن والنظافة إلى الممارسات التربوية—حققت معدل تطابق عام يقارب 79 من 100.
هذه الأرقام تعكس اتساع النفوذ والرهان المالي والسياسي، وهو ما يجعل السؤال عن خلفيات التمويل والاختيارات التربوية سؤالاً جوهريًا، لا مجرد تفصيل إداري.
مؤشرات الخلل: من “الفراقشية” إلى “القلشيين”
ولأننا نتحدث عن مآلات، فليس عبثًا أن نتوقف عند أحداث وفضائح حقيقية عرفها المغرب في السنوات الأخيرة، إذ تبرز كمؤشرات على خلل في التوازن بين التعليم والتربية:
صفقات “الفراقشية” التي دوّى صداها في الإعلام والبرلمان كنموذج لهدر المال العام وضعف الحكامة في الصفقات العمومية.
قضية شهادات “القلشيين” التي أثارت نقاشًا واسعًا حول نزاهة منظومة الشهادات الجامعية والمهنية وسبل الحصول عليها دون استحقاق.
هذه القضايا—على اختلاف تفاصيلها—تعكس مشكلة أعمق من مجرد خلل إداري: إنها تُظهر ما يمكن أن يحدث عندما يُختزل التعليم في تلقين معرفي بلا تربية قيمية، وعندما تتحول الشهادات والصفقات إلى غاية بحد ذاتها بدل أن تكون وسيلة لبناء مجتمع مسؤول.
الأرقام لا تخفي التحديات
صحيح أن نسب النجاح الرسمية تعطي انطباعًا بتقدم كمي:
67,8٪ نسبة النجاح في بكالوريا 2024، ارتفعت إلى حوالي 83,3٪ في 2025 في صفوف الممدرسين.
عدد المدارس الجماعاتية قفز من 226 مدرسة سنة 2021 إلى 329 مدرسة في 2024، مستهدفًا أكثر من 83 ألف تلميذ في الوسط القروي.
لكن وراء هذه النسب تظل الفوارق المجالية قائمة، خصوصًا في المناطق القروية حيث يعاني التلاميذ من نقص التأطير والبنية التحتية، وفق تقارير المجلس الأعلى للتربية والتكوين.
تربية قبل تعليم
اليوم، العبرة ليست في كمية التعلّم وحدها، بل في التربية التي تسبق التعليم.
تعليم بلا تربية يهدد بإنجاب أجيال من مسؤولين فارغين، صانعي مصالح ضيقة، وشبكات انتهازية لا روح فيها.
إن فصل النقاش السياسي-الاستراتيجي عن النقاش التقني ليس تقليلاً من شأن العاملين في الميدان، بل ضرورة لفهم كيف تُصاغ السياسات ولماذا تبدو نتائجها على الأرض كما نراها اليوم.
الخبير التربوي عبد الرزاق بن شريج