الشاعر آرثر رامبو “نجمة شاردة في التاريخ الأدبي” (2/1)

أحمد رباص – تنوير
باعتباري من جمهور حساين بنزبير على الفيسبوك، أدركت أن ديدنه ها هنا التعليق من حين لآخر على تحفة من تحف الأدب العالمي، معززا إياه بصورة لغلاف الكتاب. الجديد الذي عرضه علينا اليوم الصديق بنزبير مؤلف مزدوج يجمع بين دفتيه أشعارا لآرثر تحت عنوانين: “فصل في الجحيم” و”إضاءات”.
إليكم ما قاله، حساين بن زبير، عاشق الشعر وجليس الشعراء، في تعليقه:
“رامبو نجمة شاردة في التاريخ الأدبي. حاسِم، بلا شك. أنعش الشعر تحت مساء الكتابة وسمائها، وبلاغة شعريةٍ من شمس وجسد. من دمٍ تخثر في شبح أوفيليا. إنه ابنٌ للشمس. ثورته لم نستوعبها بعد. ولم يكن رامبو، يوما ما، مكلَّفا بواجب إشعاعٍ أدبي، أو برسالةِ زعامة حركة أدبية. كان الشاعرَ. أو إنه الشعرُ. رامبو “هو” الشعر ذاته. وفيه يقيم. ثم في “كيمياء الكلمة”، رامبو يضبط شكلَ وحركةَ كل حرف ساكن. هنا أو هناك، رامبو ربما أسس (أو لم يؤسسْ) إيقاعا شعريا غريزيا. ثم يدعو كل الحواس من أجل الشعر والنثر. شعره بدعة نادرة تخترع المجهول لينفتح على أشكال جديدة. رامبو الرائي الذي اختلت حواسه ليستنزف الأبجدية وهندستها المعمارية. شعره مزيج من القراءات وأحلام هاربة أو مهرَّبة. رامبو أشبه بربَّان سفينة شعرية تتقاذفها أمواج الحداثة وديمومتها في آبار مضامين. رامبو ثوري وشاعر حقٌّ. رامبو شاعر في حالة طوارئ، دائما. شعره مركب سكران. لسنا ندري. شعره هبوط نحو الجنة. وصعود نحو الجحيم. قافيته موسيقى نادرة في المتن الشعري الذي لم يسكر قط. رامبو غريقٌ فِكِّيرٌ يهبط نحو غرابة ما. إنه يعْرِف السماوات. ثم يدرزها برحيق الشعر”.
وحتى أجعل لهذا التعليق امتدادا مناسبا يعكس رغبة في الحوار المثمر، ولجت إلى موسوعة “لاروس” واستقيت منها هذه المعلومات.
كان آرثر رامبو، في مرحلة مراهقته المتمردة، شاعرا عبقريا نضج باكرا، وظاهرة أدبية. زاد تخليه عن الشعر في سن الحادية والعشرين، ثم اختفاؤه على حدود إفريقيا وآسيا، من جاذبية الشخصية التي كوّنها لنفسه، شخصيةً مهووسةً بالعصر الحديث. كان “رائيًا” حقيقيًا – على حد تعبيره – عبّر عن دوار الهلوسة بلغة جريئة وواضحة، ويُعتبر معلما بارزا بين الرومانسية والسريالية.
كان والده ضابطا صغيرا؛ وكانت أمه من أصل فلاحي. انفصل الوالدان بعد ولادة طفلهما الخامس. كان لآرثر أخ أكبر (1853) وأختان أصغر (1858، 1860) – توفيت الثالثة في عمر شهر واحد (1857).
كان رامبو الطفل (1854-1871) صعب المراس ورائعا. أمضى طفولته في شارلفيل، تحت إشراف أم متقشفة وملحاحة. تلقى دراسات جيدة جدا بنجاح في كلية المدينة، بينما أشر على ميله إلى الثورة، خاصة ضد النظام الاجتماعي والدين. شجعه اهتمام جورج إيزامبار، أستاذ البلاغة، على كتابة محاولاته الشعرية الأولى les Effarés”، “le Dormeur du val (1870). وبعد هروبه عدة مرات، تخلى عن شهادة البكالوريا. كان يطمح إلى الذهاب إلى باريس ليشهد آثار حرب 1870 وحرب الكومونة*، وليدخل إلى عالم الأدب.
– “الرجال الطيبون القذرون” (1871-1872)
معززا بالاتصال الذي أقامه مع الشاعرين تيودور دي بانفيل وبول فيرلين، وصل رامبو إلى العاصمة (15 سبتمبر 1871). استقباله صديقاه بترحاب واستقبلاه استقبالا حارا قبل أن يدعواه إلى وليمة عشاء “الرجال الطيبين القذرين” (Vilains Bonshommes) التي جمعت الكتاب والفنانين الطليعيين. أثار حذقه الإعجاب: مع “القارب المخمور” (1871)، بدا أن الشاعر الشاب يهيمن بالفعل على جماليات نماذجه. إلا أن شخصيته الاستفزازية كانت تصدم من حوله. تم استبعاده أخيرا من الدائرة وعاد مؤقتا إلى عائلته (ربيع 1872).
– مع بول فيرلين (1872-1873)
بعد العودة إلى باريس، غادر رامبو هذه المرة إلى إنجلترا ثم منها إلى بلجيكا. رافقه فيرلين الذي أقام معه علاقة رومانسية. كانت حياة التجوال التي عاشها الرجلان غنية بالانطباعات: جمع فيرلين مادة مستقبله “رومانسيات بدون كلمات” (1874)، وكتب رامبو “الإضاءات” (1872-1875؛ نُشر عام 1886). لكن التوترات ظهرت فجأة عند حدوث مأساة 10 يوليوز 1873: في بروكسل، أصاب فيرلين صديقه برصاصتين من مسدس.
– الموسم الشعري الأخير (1873-1875)
في ضيعة العائلة في روش حيث أمضى فترة النقاهة، حرر رامبو “موسم في الجحيم” (1873)، المجموعة الوحيدة التي كتب لها أن تنشر. ثم ذهب إلى لندن مرة أخرى، وقام برحلة إلى شتوتغارت لتعلم اللغة الألمانية. هذا هو المكان الذي يرى فيه فيرلين – مرة أخرى في هذه الأثناء خارج السجن – ويعطيه مخطوطة “إضاءات” التي فرع لتوه من كتابتها (فبراير 1875). تحت تأثير عاطفة دينية، وصل إلى إيطاليا، قبل أن يعود مرة أخرى إلى شارلفيل.
– التاجر الغريب (1875-1891)
بدأ رامبو حياته المهنية كجندي في الجيش الهولندي في جاوة (1876) ثم كموظف تجاري في عدن (1880) وهرار بالحبشة (انطلاقا من 1881). إن الوجود الذي يعيشه، والمعروف من خلال المراسلات المتبادلة مع عائلته، أمر خطير. منذ عام 1885، أصبح يعمل لحسابه الخاص في تهريب الأسلحة وهو ما بدا واعدا. ومع ذلك، أجبره ورم في الركبة على العودة إلى أوروبا لتلقي العلاج: توفي في مرسيليا بعد أشهر قليلة من وصوله إلى هناك.
1. حياة آرثر رامبو
1.1. مثل “قارب مخمور”
نشأ آرثر رامبو تحت يد أم استبدادية في غياب والده، الذي كان جنديا في الميدان والذي سيتخلى عن الأسرة قريبا، وأظهر عبقريته المبكرة طوال مسيرته المدرسية، حيث جمع جوائز التميز، خاصة عن أشعاره اللاتينية. في يناير 1870، أصبح صديقا لجورج إيزامبارد (1848-1931)، أستاذ البلاغة الملتزم بالأفكار الثورية، والذي قرأ معارضاته الأولى “هدايا رأس السنة للأيتام” التي نشرت حينئذ في “la Revue pour tous”. في ماي أرسل ثلاث قصائد إلى ثيودور دي بانفيل على أمل أن يتم نشرها في بارناسوس المعاصر “le Parnasse contemporain”.
(يتبع)
————————————————-
(*) كومونة باريس أو الثورة الفرنسية الرابعة (باللغة الفرنسية: La Commune de Paris) هي حكومة بلدية ثورية أدارت باريس، فرنسا لفترة قصيرة ابتداءً من منتصف مارس 1871. قامت الثورة في باريس وبعدها الكومونة كنتيجة لخسارة نابليون الثالث الحرب مع بروسيا ودخول الجيش البروسي المذل إلى باريس بعد حصارها. انتخب تسعون ممثلا في الكومونة أو مجلس مدينة باريس (بالفرنسية: “commune”) باقتراع عمومي وأعلنت حكمها على كامل فرنسا. كان نزاعها حول السلطة مع الحكومة المنتخبة لفرنسا سبباً رئيسياً في القمع الوحشي لها من طرف القوات الفرنسية النظامية فيما سمي بعد ذلك «بالأسبوع الدموي» (“La Semaine sanglante”) في 28 مايو 1871. صاحبت النقاشات حول سياسات ومآلات الكومونة تداعيات سياسية مهمة في داخل وخارج فرنسا خلال القرن العشرين حيث اعتبرت أول ثورة اشتراكية في العصر الحديث. (ويكيبيديا)