بين الحكمة وعين العقل، امتحان الدولة أمام شبابها

حميد قاسمي-تنوير
إنّ الاحتجاجات الشبابية التي تعرفها البلاد اليوم ليست مجرّد هبّة عابرة، ولا هي نزوة غضب يمكن احتواؤها بالهراوات الأمنية أو ببلاغات التطمين، بل هي حدث نوعي يحمل في طياته مؤشرات تحوّل عميق في علاقة الدولة بالمجتمع، ويختزن في داخله طاقة احتجاجية نابعة من عمق الإحساس بالغبن والإقصاء.
لقد عبّر الشباب، وهم وقود المستقبل، عن مطالب واضحة: حرية، كرامة، عدالة اجتماعية. وهي ليست شعارات ارتجالية، وإنما عناوين كبرى لأزمة ممتدة، تُحيلنا على فشل النموذج التنموي في ترجمة وعوده إلى واقع ملموس. وهذا ما يجعل من الإنصات الحكيم واجبا وطنيا، قبل أن يغدو انفجار الأوضاع أمرا محتوما لا قدر الله وهذا لا أتمناه.
لقد نبّه الفيلسوف الفرنسي ألبير كامو إلى أنّ “الحرية لا تُمنح، بل تُنتزع”، كما ألحّ جون لوك على أنّ العقد الاجتماعي يقوم على حماية الحقوق الطبيعية للإنسان. فكيف نُبرر اليوم أن يُحرم الشباب من أبسط حقوقه في التعليم والصحة والعمل؟ وكيف نقبل أن يُواجه مطلب مشروع بالعنف والإنكار؟
التاريخ القريب يقدم لنا دروسا بالغة الأهمية؛ فقد أثبتت تجارب كثيرة أن المقاربة الأمنية، مهما بلغت من شدة وغلظة، لا تنتج إلا إخماد قصير، فيما تظل جذور الأزمة متقدة. ولعل ما حدث في زمن إدريس البصري شاهد على أن القمع لم يكن يوما حلا ناجعا، بل مجرد تأجيل للانفجار. وحدها الحكمة التي تجمع بين العقل والجرأة هي التي تمنح للدولة شرعيتها الحقيقية.
إنّ عين العقل تقتضي اليوم أن تعيد الدولة بناء جسور الثقة مع مواطنيها، عبر مبادرات ملموسة لا وعود مؤجلة. إصلاح المدرسة العمومية، إعادة الاعتبار للمستشفى العمومي، فتح آفاق للتشغيل الكريم، وربط المسؤولية بالمحاسبة. هذه ليست شعارات وكفى، بل التزامات أخلاقية وسياسية تضمن بقاء الوطن متماسكا، وتحفظ الدولة من الانزلاق إلى صدام لا رابح فيه.
وليس غريبا أن يقول الفيلسوف الإيطالي أنطونيو غرامشي “الأزمة تكمن في أن القديم يحتضر والجديد لم يولد بعد”. فالمغرب يعيش لحظة مخاض عسير، بين ماضٍ لم يعد مقنعا وحاضر مأزوم ومستقبل لم يتضح بعد. وهنا يبرز دور الحكمة؛ أن تستبق الدولة إلى مثل هذه الإحتجاجات بقرارات شجاعة، وأن تتحمّل مسؤوليتها التاريخية في تحويل الاحتجاج إلى فرصة للإصلاح.
إنّ الحكمة ليست ضعفا، بل هي ذروة القوة. والعقل ليس ترفا، بل هو سبيل النجاة. فإذا كانت الدولة بحق دولة الجميع، فإن أول امتحان يواجهها هو كيف تُصغي لصوت أبنائها، وكيف تحوّل صراخ الشارع إلى مشروع وطني جامع. عندها فقط يمكن أن نقول إنّ المغرب يمشي على قدميه بثقة، بدل أن يجرّ خطاه على أرضية ملغومة باليأس والإحباط.
ذلك هو الرهان الذي لن يكسبه سوى من امتلك شجاعة الحكمة، وأدرك أن عقل الدولة لا يزدهر إلا حين يصغي إلى قلب الوطن.