وجهة نظر
من جيل مقاومة الاستعمار إلى جيل مقاومة التهميش: القاسم المشترك في ديناميات الاحتجاج بالمغرب (1956-2025)

بن شريج عبد الرزاق
مقدمة
منذ استقلال المغرب سنة 1956، لم يخلُ المشهد السياسي والاجتماعي من موجات احتجاجية متكررة ومتنوعة: من انتفاضة 23 مارس 1965 إلى “انتفاضة الخبز” في 1981، ومن حركة 20 فبراير 2011 إلى حراك الريف وجرادة، وصولاً إلى احتجاجات طاطا وآيت بوكماز وأزيلال إلى احتجاجات “جيل Z” في الأسبوع الماضي.
فإذا كان الاستعمار الفرنسي قد وحّد شباب الأربعينيات والخمسينيات في معركة التحرر الوطني، فإن سؤال المرحلة اللاحقة كان: ما الذي يوحّد كل هذه الحراكات الاجتماعية داخل المغرب المستقل؟
الجواب يبدو في انتقال بؤرة الصراع من “المستعمِر الخارجي” إلى “آليات التهميش الداخلي”، حيث أصبح المشترك بين مختلف الحركات هو السعي إلى العدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية والإنصاف المجالي.
-
من “الاستعمار الخارجي” إلى “الاستبعاد الداخلي”
يرى عالم الاجتماع الأمريكي إيمانويل والرشتاين أن دول ما بعد الاستعمار غالبًا ما ترث بنية اقتصادية غير متكافئة، وتعيد إنتاجها داخليًا في شكل “تبعية داخلية”. هذا ما يفسر كيف تحوّل مركز الاحتجاج في المغرب من مواجهة قوة أجنبية إلى مواجهة اختلالات التوزيع والتنمية داخل الدولة الوطنية نفسها.
انتفاضة 1981 على ارتفاع الأسعار، وحراك جرادة ضد “الموت في الساندريات”، مثالان بارزان على هذا الانتقال من مقاومة سياسية إلى مقاومة اجتماعية-اقتصادية.
-
الشرارة: من حادث صادم إلى وعي جماعي
يشرح تشارلز تيلي أن الحركات الاجتماعية تنفجر عادة عبر ما يسميه ترسانة الفعل الاحتجاجي (repertoires of contention)، حيث تتحول الأحداث المأساوية إلى لحظات تأسيسية للاحتجاج.
في المغرب، كثير من الحركات اندلعت من حادثة مأساوية: وفاة الطالبات في انتفاضة 1965، “شهداء الخبز” سنة 1981، سحق محسن فكري في شاحنة النفايات بالحسيمة (2016)، مصرع عمال الفحم بجرادة (2017)، ضحايا الفيضانات بطاطا (2024). هذه الوقائع تتحول في المنظور الشعبي إلى رموز للظلم، وتمنح المحتجين شرعية أخلاقية قوية.
-
الشباب كفاعل مركزي
كما يؤكد ألان تورين، فالحركات الاجتماعية الحديثة تقودها فئات تسعى إلى إعادة تعريف معنى المواطنة، وليس فقط تحسين شروط مادية.
في المغرب، كان الشباب دائمًا في الطليعة: تلاميذ الدار البيضاء 1965، طلبة الثمانينيات، شباب حركة 20 فبراير، نشطاء الريف وجرادة. فـ”الجيل” ظل وحدة اجتماعية متجددة، تمامًا كما كان جيل الأربعينيات والخمسينيات موحّدًا ضد الاستعمار.
الشباب هنا ليس مجرد فئة عمرية، بل قوة رمزية تعطي للحركات زخمًا أخلاقيًا وإبداعًا في التعبئة (المسيرات، الشعارات، استعمال الوسائط الرقمية).
-
التهميش المجالي والاقتصاد السياسي للاحتجاج
يبيّن بيير بورديو أن الهيمنة لا تُمارَس بالقوة المباشرة فقط، بل أيضًا عبر “العنف الرمزي” المتمثل في الحرمان من الموارد والخدمات.
المغرب يقدم صورة واضحة لهذا: معظم الحركات اندلعت في مناطق عانت من “التهميش المزدوج”:
غياب البنية التحتية والخدمات (الصحة، التعليم، النقل كما في طاطا وآيت بوكماز، …).
استغلال الثروات دون مردودية محلية (فضة إميدر، فحم جرادة، موانئ الريف، …).
هذا ما ولّد إحساسًا عامًا بـ «اللاعدالة مجالية”، وهو أحد أقوى القواسم المشتركة بين كل الحراكات المغربية.
-
القاسم المشترك: الكرامة والعدالة الاجتماعية
إذا كان شعار التحرر في الأربعينيات والخمسينيات هو “الاستقلال”، فإن الشعار الجامع اليوم هو “الكرامة”.
من احتجاجات الخبز سنة 1981، إلى حركة 20 فبراير 2011، إلى حراك الحسيمة وجرادة، نجد المطالب تتراوح بين تحسين الأجور، توفير الصحة والتعليم، ضمان التشغيل والسكن. لكنها جميعًا تلتقي في مطلب مركزي: الحق في عيش كريم داخل وطن عادل.
بتعبير تورين، هذه ليست مجرد مطالب مادية، بل هي دعوة إلى “إعادة تعريف العقد الاجتماعي” بين الدولة والمجتمع.
خاتمة
القاسم المشترك بين موجات الاحتجاج في المغرب، من 1965 إلى 2025، ليس انتماءً حزبيا أو إيديولوجيا موحدًا، بل إحساس جماعي بالظلم والتهميش، ورغبة مشتركة في العدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية.
بعد أن كان الاستعمار الخارجي هو العدو الذي وحّد أجيال المقاومة، صار “الاستبعاد الداخلي” هو العدو الذي يوحّد أجيال الاحتجاج. وهكذا تستمر الحركات الاجتماعية المغربية كحلقة أساسية في مسار بناء مواطنة كاملة وعدالة مجالية طال انتظارها.