ثقافة و فن

الشاعر آرثر رامبو “نجمة شاردة في التاريخ الأدبي” (2/2)

أحمد رباص – تنوير
الفرار والتمرد
مقاوما لجميع أشكال السلطة، فر رامبو إلى باريس لأول مرة في غشت 1870. تم القبض عليه في محطة قطار الشمال بدون تذكرة، وتم سجنه في سجن مازاس، ثم أُعيد إلى شارلفيل. وفي الأشهر التالية، هرب مرتين أخريين. في هذا الوقت كتب قصائد التشرد (“Ma Bohème”، “Au Cabaret vert”، “le Buffet”، “Rêvé pour l’hiver”) والقصائد المتعلقة بالحرب، مثل “Le “Dormeur du Val.
يوم 13 ماي 1871، كتب رامبو إلى إيزامبار: من الخطأ القول: أنا أفكر. يجب أن نقول: يتم التفكير في. آسف على اللعب بالكلمات. أنا آخر”. لذلك وضغ الشاعر على عاتقه مهمة معرفة نفسه من خلال التخلص من كل المواضعات والثقافات والخطابات التي تعيقه. بعد يومين، في رسالة تُعرف باسم “رسالة من الرائي” (موجهة إلى الشاعر بول ديميني [1844-1918] الذي التقى به في دواي العام السابق)، دعا إلى “اضطراب طويل، هائل ومنطقي لجميع الحواس”، يفترض في الوقت نفسه تفضيلا للحواس على المعنى، تقدما منهجيا نحو المجهول خارج حدود العقل والأخلاق وجسد الإنسان.
1.2. العلاقة مع فيرلين
في نهاية غشت 1871، بتحريض من بول أوغست بريتاني (1837-1881) – صديق تعرف على فيرلين في فامبو، بالقرب من أراس – بعث رامبو إلى مؤلف “الأغنية الجميلة خمسة من قصائده (“les Effarés”، “Crouches”، “les Douaniers”، “le Cœur volé”، “les Assis”). متحمسا لهذه النصوص، دعا فرلين الشاعر الشاب للحضور إلى العاصمة. وصل رامبو إلى باريس في شتنبر ومعه أحدث مؤلفاته “القارب المخمور”. بلغ عمره بالكاد سبعة عشر عاما. انتقل للعيش مع أصهار فيرلين، حيث سرعان ما تسبب في فضيحة.
بين الرجلين، كانت بداية علاقة عاطفية وعاصفة، تخللتها العديد من الانفصالات، ورحلات أخذتهما إلى بلجيكا، إلى لندن، إلى شارلفيل، إلى لندن مرة أخرى، إلى روش (بالقرب من أتيني)، مرة أخرى إلى لندن ثم إلى بلجيكا. انتهت علاقتهما في بروكسل يوم 10 يوليوز 1873، عندما أطلق فيرلين، الذي كان مخمورا ومذعورا من فكرة انفصال رامبو عنه، النار على صديقه بمسدس وأصابه في معصمه، تلك فعلة تسببت له في قضاء عامين في سجن مونس.
تحت الصدمة، أكمل رامبو قصة سيرته الذاتية في نفس العام معبرا فيها عن “هذياناته”: “موسم في الجحيم”، الذي نشره على نفقته وسرعان ما فقد الاهتمام به. كما اكتشف قدرات جديدة في التعبير، كما يتضح من “إشراقات” وهي مجموعة من نصوص نثرية وأبيات شعرية حرة مكتوبة بين عامي 1871 و1875.
1.3. “الحياة الحقيقية في مكان آخر”
“كتبت عن الصمت والليالي وسجلت ما لا يمكن التعبير عنه. ضبطت الارتعاشات” (موسم في الجحيم، هذياناتll، خيمياء الكلمة). في سن العشرين، توقف رامبو عن نشاطه الشعري واستأنف وجوده المتجول، لكنه وحيدا هذه المرة، رغم أنه يسير على خطى والده العسكري وكاتبه في أوقات فراغه (عمله المخطوط بأكمله، اختفى). بعد أن تجاوز في شعره جميع الاختلافات الجنسية والبيولوجية (الطفل/البالغ) والجغرافية (البرابرة/الغربيون) والتاريخية (العصور الوسط/الحديثة)، عمل على ترجمة شعره إلى أفعال.
من لندن إلى قبرص: التجوال
منذ عام 1874 بدأ التجوال الذي لن ينتهي إلا بالموت. ذهب الذي أطلق عليه فيرلين لقب “الرجل بأسمال الريح” أولاً إلى لندن (1874)، بصحبة جيرمان نوفو، ثم إلى ألمانيا (1875)، لتعلم اللغة الألمانية. ثم ذهب إلى إيطاليا وباتافيا (جاكرتا اليوم) [1876] – حيث هجر من الجيش الاستعماري الهولندي، الذي انضم إليه – ثم إلى فيينا (1877) والسويد والدنمارك. حاول الوصول إلى الإسكندرية وأقام في قبرص (1878 و1879). وبعد كل رحلة من هذه الرحلات، كان يعود إلى شارلفيل.
عدن، هرار: الاتجار
يوم 7 أغشت 1880، استقر رامبو في عدن، جنوب شبه الجزيرة العربية، حيث وقع عقدا مع دار تعنى بالاتجار في الجلود. ومن عام 1881 إلى عام 1890، جرى تفويضه إلى هرار، حيث أصبح أيضا مستكشفًا وتاجرا للأسلحة (قاد بشكل خاص قافلة أسلحة بيعت للملك الإثيوبي منليك الثاني). أثناء إقامته، لم يتوقف أبدا عن إحاطة عائلته علما بأنشطته.
مرسيليا-شارلفيل-مرسيليا: الرحلة الأخيرة
في 8 مايو 1891، عاد رامبو إلى فرنسا ليتم إدخاله إلى مستشفى مرسيليا: حيث كان يعاني من ورم سرطاني في ساقه اليمنى استدعى عملية البتر. مكث في آردين من أجل فترة النقاهة، لكن حالته تدهورت، وعاد إلى مرسيليا، حيث توفي يوم 10 نوفمبر في مستشفى لا كونسيبسيون، عندما بدأ شعره يحظى بالاهتمام: في عام 1886، نشرت دار فوگ “إشراقات”.
2. كتابات رامبو
يشكل مآل آرثر رامبو جزء لا يتجزأ من أعماله: لا ينفصل الإرث الأدبي للشاعر عن مغامرات حياته، التي تبلورت بعد وفاته في أسطورة سكنت القرن العشرين. ذلك أن “القوى الخارقة للطبيعة” (“الوداع”، موسم في الجحيم 1873) جعلت رامبو شاهدا وفاعلا من خلال الكتابة. تضمنت الثورة الشعرية التي قام بها تجربة المخيال، التي هي أيضًا مغامرة إنسانية غير مسبوقة.
2.1. الـ”رائي”
كان رامبو طفلاً بلغ الحلم باكرا وذا حساسية مفرطة، وسرعان ما واجه حدود الأسرة والبيئة الإقليمية التي نشأ فيها. منحه التعلم المدرسي لمحة عن موارد الأدب. لكن تعطشه للحداثة صرفه عن معظم المؤلفين الذين درسهم في الفصل. إنما في ذاته، بعيدا عن النماذج والمواضعات، خاض تجربة راء بحثا عن عالم موازٍ: “أقول إن على المرء أن يكون رائيا، أن يجعل من نفسه رائيا”. جعل الشاعر من نفسه رائيا من خلال اضطراب طويل، هائل ومنطقي لجميع الحواس. بكل أشكال الحب والمعاناة والجنون؛ بحث عن نفسه، واستنفد كل السموم داخل نفسه، ليحتفظ فقط بالجواهر (رسالة من آرثر رامبو إلى بول ديميني، 15 مايو 1871).
“أوبرا رائعة”
يحيل “اضطراب جميع الحواس” إلى التقاربات البودليرية. كان شارل بودلير أول من أسس القرابة التي توحد الروائح والألوان والأصوات؛ أول من عرف كيف يستنتج من سحر الأحاسيس حقيقة تتجاوز الأشياء.
ومع ذلك، ابتغى رامبو تجاوز هذا المعلم، أحد الشعراء المعاصرين الوحيدين الذين يستحقون، في نظره، لقب “الرائي” معتبرا إياه “إلها حقيقيًا” (رسالة من آرثر رامبو إلى بول ديميني، 15 مايو 1871)، لكنه أعاب عليه نزعة محافظة معينة من حيث التعبير والشكل. أدى اضطراب الحواس إلى اندماج بين العالم الخارجي والعالم الداخلي، بين الخيال والفكر، بين الحلم والواقع. وهذا الاندماج الذي حول الشاعر إلى “أوبرا رائعة” (“Délires II”. خيمياء الكلمة”، “موسم في الجحيم”)، استدعى لغة جديدة ليتم إعادة تأسيسه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى