مجتمع

وطن على حافة الهاوية: على يد أبواق مأجورة وأحزاب عاجزة وحكومة عمياء

حميد قاسمي-تنوير
ليس أسوأ على وطني الغالي من أن يُدفع إلى الحافة، لا بأيدي أبنائه الحقيقيين، بل على يد فئة من أشباه الصحفيين والمحللين الذين جعلوا من التطبيل والتزمير صنعة، ومن استفزاز المواطن عادة، ومن التضليل وسيلة للاسترزاق. أقلام متسخة بمدادها ومنكسرة باعت شرف الكلمة في سوق المصالح، لتُجمّل قبح السياسات، وتُقدّم للأمة سرابًا في ثوب واقع.
الأحزاب السياسية، التي كان يُفترض أن تكون وسيلة تأطير وتعبير، تحولت إلى هياكل متخشبة، لا تصنع إلا البيانات المكرورة، ولا تجيد إلا المزايدات العقيمة .. مع الأسف أحزاب أصبحت أطلال خاوية على عروشها، لا حياة فيها إلا عند اقتراب موسم الانتخابات.
أما الحكومة، فكانت المرآة الأكثر قتامة لهذه الرداءة: سياسات هوجاء، وقرارات مرتجلة، ولامبالاة أفرغت جيوب المواطنين من الصبر قبل الدراهم. وضمن هذه السياسات، تصدرت بعض التصريحات المستفزة والصادمة منها على سبيل إلى الحصر: “اباه لباس عليه، عندو لفلوس، وقرا ولدو في كندا”
هذا التصريح الفج والغير المحسوب يكشف الهوة العميقة بين المسؤول والمواطن، ويعكس استخفافاً صارخاً بمعاناة الشعب، وكأن الألم اليومي للفقراء مجرد تفصيل هامشي في حياة المترفين. إنه إعلان صريح عن خيانة الواجب الوطني تجاه المواطنين الذين ينتظرون من قيادتهم حماية وكرامة، لا التفاخر بالأبناء في الخارج.
تراكمات السياسات الفاشلة تتجلى بوضوح في كل زاوية من حياتنا اليومية:
• المنازل هُدمت وترك الناس في العراء، بلا مأوى، وبلا حماية.
• قطاع التعليم صار حقل تجارب للأساتذة والتلاميذ على حد سواء، والتنقل بين مناهيج متعددة بلا خطة وطنية واضحة أصبح قاعدة.
• المستشفيات العمومية تحولت إلى أماكن تتلاشى فيها الإنسانية، المرضى يُلقون على الأرض، ونساء يلدن في العراء، فيما الوزراء يتباهون بما يسمونه “إنجازات” على الورق.
• دعم المحروقات صار أداة لإفراغ جيوب المواطنين، وأرباح الشركات تتضاعف بلا أي حسيب ولا رقيب.
إضرابات الأساتذة واحتجاجات الأطباء والشباب في الشارع، بالإضافة إلى الاعتقالات التعسفية للصحفيين والنشطاء، كلها مؤشرات على انهيار الثقة بين الدولة ومواطنيها. الدولة اليوم أمام امتحان حقيقي: هل ستستجيب للعقل والحكمة، أم ستواصل تعنُّتها؟
لقد قال ابن خلدون: “الظلم مؤذن بخراب العمران”، وكأنما يصف حالنا اليوم. وقال أفلاطون: “أعظم أشكال الظلم هو أن يبدو العدل ظلمًا”، وما أشبه مشهدنا بمقولته حين يُسحق المواطن ويُقال له إن كل شيء على ما يرام. وقال المتنبي: “وإذا كانت النفوس كبارًا تعبت في مرادها الأجسام”، لكنّ النفوس الصغيرة التي تتصدر المشهد اليوم لم تتعب إلا في صناعة الوهم والخذلان.
نعم، الوطن يئن، ويتألم على سرير الأزمات. وما وقع مؤخرًا من إعتقالات وتخريب ليس حلًا ولا خلاصًا، بل إنذار أخير يعلن أنّ الوقت ينفد. الفوضى لا تُنقذ الأوطان، لكنها تكشف عجز الدولة، وفضيحة الأحزاب، وخيانة الأقلام، وفضائح حكومة لم تُحسن حتى الصمت فما بالك بالكلام.
لقد حان الوقت للقول بلا مواربة: هذا الوطن أكبر من أن يُترك رهينة لسياسات عمياء، وأبواق مأجورة، وأحزاب عاجزة. الوطن يحتاج إلى وعي سياسي جديد، يحتاج كذلك إلى شجاعة الاعتراف بالخطأ، وإلى مسؤولين يعرفون أن الكراسي لا تدوم، وأن التاريخ لا يرحم.
اللهم احفظ هذا الوطن العزيز من كيد الكائدين، ومن عبث العابثين، وامنحه من لطفك ما يعصمه من الانهيار. ونداء من القلب إلى عقلاء هذا البلد: تداركوا الأمر قبل فوات الأوان، فإنّ الأوطان لا تُبنى بالقمع ولا بالخطابات ولا تُصان بالأوهام، بل بالحكمة، والعدل، والغيرة الصادقة على مستقبلها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى