ليست الخطيئة حجراً يزلّ به قدم العابر في طريقٍ موحل أو حادثاً عابراً في حياة الإنسان، وإنما هي موقفٌ من الوجود، هي بوابة سرّية يفتحها الإنسان في ذاته. قد تكون في أول الأمر نزوةً خاطفة، كغمامةٍ عابرة في سماء صافية، ثمّ ما تلبث أن تغدو إقامةً مقصودة، كمن يفرش سجادةً في قاع الهاوية ويشعل قنديله ليطمئنّ أن الليل صار بيتَه. فالوقوع في الذنب قد يحدث لأيّ بشر ينبه الضمير ويوقظ العقل ، أما الإقامة فيه فهو قرار، والإصرار عليه هو ميثاقٌ خفيّ مع الظلمة.
ففي نظر الفلاسفة، الحريةُ هي امتحان الإنسان الدائم. هناك من يخطئ ثم يرجع إليه وعيُه، فيمارس حريته في أرقى صورها، وهناك من يخطئ ثم يصرّ على ذلك فقد تنازل عن سيادته الداخلية، وصار عبدًا لعاداته وملذّاته، يستبدل تاج الوعي بالتبرير. هنا ينقلب الذنب من لحظةٍ إنسانية إلى نمط وجود، إلى “سوء إيمان” كما سمّاه سارتر، أو “يأس” كما وصفه كيركغارد: أن يحيا المرء حياةً ليست حياته ويبرّرها أمام نفسه وكأنها قدرٌ مفروض.
ومن منظور اجتماعي، الخطيئة ليست فعلاً شخصياً بريئاً. فقطرة السمّ الواحدة قد تفسد نهرا بأكمله، والزلّة المعلنة قد تصبح عدوى سارية في المجتمع. إذ حين تتكرّر المعصية وتُشرعن بالعُرف أو الصمت عنها، تتحوّل إلى ثقافةٍ فرعية تقوّض الثقة بين الناس وتربّي جيلاً على الاعتياد عليها. عندئذٍ يتبدّل وجه المدينة: يصبح المنكر مألوفاً والمعروف غريباً، وتخسر الجماعة بوصلتها الأخلاقية كما يخسر الملاح نجمته التي ترشده في ظلمة الليل.
أما الأخلاق فتضع فارقاً صريحاً بين الزلة العابرة والذنب المقيم. فالأولى تحث على الاعتراف والاعتذار والتصحيح والتصويب، والثاني يُطفئ الضمير حتى يغدو القلب أصلب من الحجر. حيث كل إصرار على الأذى يراكم جانبا مظلما جديدا على المجتمع ويُخرّب الإمكانات الخفية للخير فيه. ومن يصرّ على الشرّ يصبح ـ من حيث لا يدري ـ داعيةً إليه.
وفي الدين، يظل الباب مفتوحاً: “قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله”. لكن النصوص تفرّق بين من يخطئ فتلين نفسه وبين من يخطئ فيتكبر. إذ لا تعتبر التوبة طقساً لفظياً وإنما هي انكسارُ كبرياء داخلي، وعودة القلب إلى الله، وكأنها عودة النهر إلى منبعه. فالإصرار على الخطيئة هي بمثابة إغلاق متعمّد لهذا الباب، وحصار للنفس في قوقعة الحرمان الروحي.
هكذا نرى أن الخطيئة ليست سقوطاً في الهاوية بقدر ما هي بناء بيتٍ فيها. فكلما كان هناك وعيٌ واعترافٌ وتوقّف، بقيت في مستوى الزلة القابلة للإصلاح؛ وكلما كان هناك إنكارٌ وتبريرٌ وإصرار، ارتقت إلى مستوى الاستحالة الأخلاقية والاغتراب الروحي. إنّها في النهاية امتحانٌ للحرية: هل نبقى سجناء زلّاتنا، أم نجرؤ على التحرّر منها؟
وأخير فالإنسان الذي يصرّ على الخطيئة يكتب استقالته من إنسانيته، والإنسان الذي يتوب عنها يستعيد حقّه في أن يكون. فبين الإصرار والتوبة مسافة هي في ظاهرها خطوة وفي حقيقتها كونٌ كامل: خطوةٌ يقظة واحدة للقلب تخلع عن الروح أثقالها وتمنحها أجنحةً من نور، لتصعد من قاع الهاوية إلى فضاء المغفرة والطمأنينة، ومن سجن العادة إلى حرية الاختيار.