تنسيقية الكرامة تنظم بالرباط ندوة صحافية حول العدالة الانتقالية

أحمد رباص – تنوير
نظمت تنسيقية الكرامة واليقظة للعدالة الانتقالية، يوم فاتح أكتوبر الجاري، ندوة صحافية بمقر الجمعية المغربية لحقوق الإنسان بالرباط تحت شعار: “شهادات التعذيب، سؤال الإنصاف، ومقاربة العدالة”.
الهدف من هذه الندوة الصحفية تسليط الضوء على معاناة فئة من المعتقلين الإسلاميين المفرج عنهم وما تتعرض له وعائلاتهم من إقصاء وتهميش وعدم الإدماج الفعال وغياب الرعاية الاجتماعية والنفسية اللاحقة لهم،
في البداية، رحبت تنسيقية الكرامة واليقظة للعدالة الانتقالية بالمعتقلين المفرج عنهم وبضيوفها من الأساتذة الحقوقيين والقانونيين والأكاديميين وممثلي الصحافة الحاضرين معنا وكافة الحضور الكريم في هذه الندوة، والتي قسمت أشغالها إلى ثلاث جلسات موضوعاتية:
الجلسة الأولى: تقديم شهادات حية لعدد من قدماء المعتقلين حول معاناتهم بعد الإفراج و كذلك لعائلاتهم حول آثار الإقصاء والتهميش وسبل الادماج التي يقترحونها.
الجلسة الثانية: تتناول الأبعاد السياسية والحقوقية والقانونية للقضية والتحديات المطروحة.
الجلسة الثالثة: تناول نقاش حول “خارطة الطريق والخطوات الضرورية والآلية والمقاربة السياسية والحقوقية والإنسانية الناجعة لطي قضية المفرج عنهم”
خلال هذه الندوة، أدلى ضحايا الاعتقال التعسفي بشهادات تجمع كلها على أنهم لم يستفيدوا من توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة لا من حيث جبر الضرر الفردي ولا الجماعي.
قبل توالي شهادات المعتقلين السابقين، تلا العلمي الحروني، المنسق الوطني لتنسيقية الكرامة، كلمة افتتاحية حول موضوع معاناة قدماء المعتقلين الإسلاميين ومطالبهم في الإدماج والرعاية اللاحقة أملا في تحقيق عدالة انتقالية شاملة.
يقول الحروني إن هذه الندوة الصحفية تأتي في سياق سياسي وحقوقي معقد، حيث تكشف التجربة المغربية على المستوى السياسي أن مسار الانتقال الديمقراطي مع ما سمي بالتناوب التوافقي والذي روج له في نهاية عهد الحسن الثاني، سرعان ما تم الانقلاب عليه بإغلاق قوس الانفتاح والتناوب الشكلي.
وأكد المتحدث أن هذا المنعطف جسد القرار الرسمي بالاستغناء عن حكومة عبد الرحمن اليوسفي وتعيين حكومة تكنوقراطية بديلا عنها سنة 2002.
على المستوى الحقوقي، يتابع المتحدث، وبعد تجربة الانصاف والمصالحة التي تعاملت مع الانتهاكات الحقوقية لفترة العهد السابق لاسيما فترة ما بات معروفا بسنوات الجمر والرصاص، مركزة على الفترة الممتدة من الاستقلال إلى سنة 1999 حددت الهيئة فترة عملها في الفترة 2004-2005 ، لتخلص إلى مصالحة بنيت، منطقيا وسياسيا، على أساس عدم العودة لتكرار ما جرى من انتهاكات حقوقية.
غير انه ومباشرة مع بداية العهد الجديد، عادت الدولة، في سياقات سياسية وأمنية مختلفة وطنية ودولية، إلى تكرار الهجوم على الحريات العامة والحقوق المدنية والسياسية. النتيجة حدوث تجاوزات خلال سنوات 2003 بكامل مناطق المغرب تحت ذريعة الارهاب “المعولم” إثر تفجيرات الدار البيضاء، شملت حملات اعتقال واسعة لآلاف المشتبه فيهم ضمنهم “إسلاميون” و”غير إسلاميين” من مواطنين بسطاء لا ذنب لهم، ذاقوا مرارة التعذيب والاحتجاز التعسفي والمحاكمات غير العادلة التي عرفت انتقادات من منظمات حقوقية وطنية ودولية. كما وقعت تجاوزات اعترفت بها السلطات الرسمية.
كما عرفت هذه الفترة تجاوزات كثيرة خلال سنوات 2008 بسيدي إفني و2010 بالأقاليم الصحراوية الجنوبية وسنة 2011 مع شباب حركة فبراير المجيدة في مواجهة الاحتجاج السلمي من أجل الديمقراطية، وسنة 2011 مع حرق خمسة مواطنين بوكالة بنكية بالحسيمة، و2016 و2017 و2018 مع المحتجين سلميا أيضا من أجل العدالة الاجتماعية وضد التهميش والفقر بجرادة وبالريف خاصة، حيث لا زال ستة مواطنين من نشطاء الحراك الشعبي يقضون عشرات السنوات في السجن، ويتعلق الامر بالمناضلين ناصر الزفزافي ومحمد جلول ومحمد الحاكي ونبيل أحمجيق وزكرياء أضهشور وسمير إغيد والذين تطالبىالتنسيقية، بالمناسبة، بإطلاق سراحهم ورد الاعتبار إليهم وتلبية مطالب حراك الريف العادلة والمشروعة
والجدير بالإشارة، حسب المنسق الوطني، أن المناطق والطبقات المهمشة نالت نصيب الأسد من العنف المفرط والاعتقالات التعسفية والانتقامية والمحاكمات التي غابت عنها شروط المحاكمة العادلة، ما شكل عودة صريحة ومقصودة لمنطق الاستبداد والتسلط والتحكم الأمني والسياسي.
لم يفلت من هذه الانتكاسة الحقوقية، الأستاذ المؤرخ المعطي منجب الذي لا زال محاصرا بالرغم من صدور العفو عنه، والصحافيون حيث تم اعتقال صحافيين بارزين مثل عمر الراضي وسليمان الريسوني وتوفيق بوعشرين وعماد ستيتو، بناء على لتهامات ذات دوافع سياسية في العمق مغلفة بأمور أخلاقية أو جنائية مثيرة للجدل. وقد أفرج عنهم يوم 29 يوليو 2024 ولازالوا جميعا يتعرضون لاستفزازات ومضايقات غير لائقة بالمفرج عنهم بعفو ملكي، لكنهم جميعا ما زالوا يتعرضون لشتى أنواع التضييق.
ازداد هذا التوجه القمعي شراسة وصلافة في الآونة الأخيرة مع اعتقال الناشطة سعيدة العلمي والمحامي محمد زيان، بالإضافة إلى عشرات من المناضلين والمناضلات داخل الحركة الطلابية …
كما تم اعتقال أساتذة وحقوقيين ونقابيين وعدة مواطنين ومواطنات بسبب احتجاجاتهم السلمية، كما وقع لآلاف الأسر المحتجة ضد الترحيل والتهجير القسري وهدم البيوت ومصادرة الأراضي في حرب طبقية عقارية وضد كافة اشكال مقاومة الظلم الاجتماعي بالعديد من المدن والاقاليم بالصخيرات والدار البيضاء وتمارة، فضلا عن المضايقات التي ترتب لمناضلين احتجوا ضد فساد المنتخبين.
بخصوص معاناة قدماء المعتقلين الإسلاميين، قال العلمي الحروني إنهم قضوا سنوات طويلة خلف القضبان في ظروف قاسية، تعرضوا خلالها لانتهاكات جسيمة وصارخة لحقوق الإنسان، والذين تم الافراج عنهم ويطالبون بجبر الضرر وحق الإدماج والرعاية اللاحقة وهو ما يجب على الدولة والحكومة تلبيتها بكل جدية ومسؤولية.
أمام هذا الوضع الشاذ، طرح المتحدث أسئلة، مثل: هل يكفي مع حالات العود هاته من طرف الأجهزة السلطوية، إعادة تجربة “انصاف ومصالحة” جديدة على أسس وضمانات متينة أم أن الأمر يتطلب تعاملا آخر يؤسس للمساءلة والمحاسبة كما ينص عليه الدستور الممنوح الحالي؟ هل يتطلب الأمر إجراء مصالحة وطنية حقيقية وتعاقدية تستلزم مراجعة جذرية للوثيقة الدستورية بحيث تجرم الانتهاكات وتردع السلوكات الضالة؟ وبأي خارطة طريق؟ وما الخطوات الضرورية والمقاربات والآليات السياسية والحقوقية والإنسانية الناجعة لطي قضية المفرج عنهم من المعتقلين السياسيين ومعتقلي حرية الرأي والتعبير وكافة معتقلي الحراك الشعبي الاجتماعي؟ وما المهام النضالية الملقاة على عاتق التنظيمات والتيارات والفعاليات المدنية الشعبية الوطنية للترافع والدفاع عن هذه القضية بهدف طي حقيقي لهذه الصفحة السوداء والانتقال ببلدنا إلى مصاف الدول الديمقراطية بالمعايير الدولية؟ وما المسؤوليات الملقاة على الجهات والمؤسسات الرسمية “الدولة وحكومتها وخاصة وزارة العدل والمندوبية السامية للسجون وإعادة الادماج والمجلس الوطني لحقوق الانسان ومؤسسات دستورية ذات الصلة كمؤسسة الوسيط مثلا للقطع من المقاربة الأمنية المفرطة والانحرافات السلوكية لأجهزتها في التعامل مع الاحتجاجات السلمية وحرية الرأي والتعبير وإصلاح ما أفسدته السجون المغربية؟
بعد خوض النقاش حول ملف العدالة الانتقالية بالمغرب، أصدرت تنسيقية الكرامة واليقظة للعدالة الانتقالية توصيات رسمية عقب هذه الندوة الصحافية.
وهكذا ركزت التوصيات على تسعة مستويات أساسية:
– تصفية ماضي الانتهاكات: الدعوة إلى طي ملف الانتهاكات الجسيمة منذ الاستقلال حتى أواخر التسعينيات، مع التركيز على ملفات رمزية مثل معتقلي تازمامارت والمقاومين ضد الاستعمار.
– الحق في الحقيقة: فتح الأرشيف الأمني والسياسي، والكشف عن المسؤوليات المباشرة وغير المباشرة، في خطوة تعتبرها التنسيقية شرطاً لأي مسار جاد للعدالة الانتقالية.
– جبر الضرر الفردي والجماعي: التأكيد على تعويض الضحايا ليس فقط مادياً، بل أيضاً عبر الرعاية الصحية والإدماج الاجتماعي والاقتصادي، مع الاعتراف الرسمي والعلني بمعاناتهم
. الإصلاح المؤسسي وضمان عدم التكرار: مطالبة بإصلاح شامل للمؤسسات الأمنية والقضائية، وتجريم التعذيب بشكل صارم، وربط الأجهزة الأمنية برقابة ديمقراطية فعلية. – الاعتراف الرسمي والاعتذار: دعوة الدولة إلى تحمل مسؤوليتها السياسية والأخلاقية، وتقديم اعتذار علني وصريح يعيد الثقة بين الضحايا والدولة.
– إشراك الضحايا: تأكيد على ضرورة تمثيل الضحايا وتنظيماتهم في صياغة سياسات الذاكرة والإنصاف.
– مسار وطني شامل: إطلاق نقاش وطني موسع تشرف عليه هيئات مستقلة وائتلافات حقوقية، من أجل وضع مسار حقيقي للعدالة الانتقالية بالمغرب.
– التحضير لندوة وطنية كبرى: كخطوة عملية لمأسسة الحوار والضغط من أجل تفعيل الإصلاحات المقترحة.
– أبعاد سياسية وحقوقية ما يميز هذه التوصيات هو نزوعها نحو المساءلة السياسية المباشرة، سواء عبر المطالبة بفتح الأرشيف الأمني أو عبر الاعتذار الرسمي، وهو ما يعيد النقاش إلى جوهر العدالة الانتقالية: الحقيقة، المحاسبة، الإنصاف، وضمانات عدم التكرار. كما أن الدعوة إلى جبر الضرر الجماعي للمناطق التي تعرضت للتهميش (الريف، الجنوب، الأطلس) تحمل رسالة سياسية واضحة: لا يمكن بناء مصالحة وطنية دون معالجة الاختلالات التنموية التي ورثت عن عقود من القمع والإقصاء.
بهذه التوصيات، تحاول تنسيقية الكرامة واليقظة للعدالة الانتقالية إعادة الاعتبار لضحايا الانتهاكات وإحياء النقاش العمومي حول ملف ظل مؤجلاً. غير أن التحدي الأكبر يبقى في قدرة هذه المبادرات على خلق ضغط وطني وسياسي حقيقي لدفع الدولة نحو فتح صفحة جديدة عنوانها: الحقيقة والإنصاف والمصالحة الكاملة.
وفي البيان الختامي، تم التنصيص على أن هذه الندوة الصحفية خصصت للاستماع إلى معاناة قدماء المعتقلين الإسلاميين المفرج عنهم ومطالبهم في الإدماج والرعاية اللاحقة، كمكون أساسي من مكونات العدالة الانتقالية الشاملة. انطلاقاً من الشهادات الحية للضحايا التي كشفت مرة أخرى عن عمق الجرح الإنساني والاجتماعي الذي خلفته سنوات الرصاص والانتهاكات الجسيمة، ومن مداخلات الفعاليات الحقوقية والقانونية والسياسية والأكاديمية، تم التأكيد على أن ذاكرة الضحايا تشكل ركيزة أساسية لمواجهة النسيان وإعادة كتابة التاريخ من منظور من عانوه، وهي فعل مقاومة سياسي وأخلاقي يستدعي المسؤولية الجماعية، وأن الإنصاف ليس منّة أو منحة، بل حق أصيل للضحايا وواجب على الدولة والمجتمع وإنصاف الضحايا لن يتحقق إلا من خلال اعتراف كامل، وجبر ضرر شامل، وضمانات حقيقية بعدم التكرار.
كما جرى التأكيد على أن أي حديث عن المصالحة يبقى ناقصاً ومشوهاً إذا لم يُبنَ على أسس العدالة والحقيقة، وإذا كان على حساب كرامة الضحايا أو طياً للصفحة دون محاسبة، و أن المعاناة المستمرة للضحايا واستمرار سياسات الإفلات من العقاب وتغول حالات العود، كل ذلك يمثل انتكاسة للقيم الأساسية للمرحلة التأسيسية لمغرب ديمقراطي يتسع للجميع وتشكل خطرا على هدف السلم الاجتماعي للعيش المشترك وعلى مستقبل الأجيال القادمة..
وبناء على هذه التوصيات، تعلن التنسيقية الوطنية عن مواصلة نضالها مع وإلى جانب القوى الديمقراطية من أجل كشف الحقيقة الكاملة وتحقيق الإنصاف الشامل لجميع ضحايا الانتهاكات الجسيمة دون استثناء، وعن تشكيل تنسيقية الكرامة واليقظة للعدالة الانتقالية للجنة متابعة لإنزال هذه التوصيات ونقل المطالب إلى الجهات المعنية.
وتطلق التنسيقية بالتالي دعوة إلى تحالف واسع بين كل مكونات المجتمع المدني من أجل إطلاق مسار وطني شامل وجاد للعدالة الانتقالية. وتبقى الخلاصة التي خرجت بها الندوة هي أن المستقبل لا يبنى على النسيان، بل على الاعتراف والمحاسبة والإنصاف والمصالحة الحقيقية التي تعيد السلطة للشعب والكرامة للمجتمع والتاريخ للضحايا ولعموم بنات وأبناء المغرب.