وجهة نظر

المعلّم: عماد النهضة ومنارة العقول بمناسبة اليوم العالمي للمعلم – بقلم: هشام فرجي

في الخامس من أكتوبر من كل عام، يحتفي العالم بأحد أنبل المهن وأعمقها أثرًا في بناء الإنسان والحضارة: مهنة التعليم. وبهذه المناسبة، اخترت أن أستخدم في هذا المقال كلمة «المعلّم» بدلًا من «المدرّس»، لأن الأولى أبلغ وأعظم دلالة؛ فهي لا تشير فقط إلى من يُلقّن الدروس أو ينقل المعارف، وإنما إلى من يبني العقول ويهديها إلى سبل التفكير السوي، ومن يغرس القيم ويزرع بذور النهضة في نفوس الأجيال. أما “المدرّس”، فهو توصيف وظيفي ضيّق، بينما “المعلّم” صفة رسالية تحمل في طياتها الهيبة والرسوخ والقدرة على التأثير في مصائر الأمم.

وتُولد الكلمات في رحم التجربة الإنسانية، وتكتسب بمرور الزمن أثقال المعاني ونُبل الرموز. ومن بين كل الكلمات التي حفرت لنفسها مكانة راسخة في الوجدان الجمعي، تبرز كلمة «المعلّم» في ذروة السمو. إنها رسالة حضارية تتجاوز حدود الزمن والمكان. فحين تُلفظ هذه الكلمة، تحضر في الذهن صور الوقار، ونور المعرفة، وبذور النهضة التي تُزرع في عقول الناشئة لتصنع مستقبل الأمم.

ولقد كان المعلم عبر العصور رُكنًا أساسيا في بناء الحضارات. ففي أثينا القديمة، كان سقراط يجالس تلامذته في الساحات، يغرس فيهم منهج السؤال والحوار، فاتحًا أمامهم أبواب الفلسفة والفكر النقدي. وفي الحضارة العربية الإسلامية، حمل المعلم لقبًا من أنبل الألقاب: “العالم” أو “الشيخ”، وكان مجلسه محجًّا للطلاب من شتى الآفاق. فنذكر سيبويه في اللغة، والرازي في الطب، وابن خلدون في الاجتماع… فهم لم يكونوا ناقلين للمعرفة فقد وإنما صُنّاعًا للعقول ومهندسين للنهضة.

كما لم يكن احترام المعلم حكرًا على الشرق؛ ففي أوروبا عصر الأنوار، ارتبط صعود الفكر التنويري بنهضة المدارس والجامعات، وبروز المعلم كفاعل مركزي في التغيير الاجتماعي والسياسي. حيث إنّ كل نهضة عرفها التاريخ كانت تبدأ من المدرسة، وكل مدرسة لا تقوم إلا على قيمة المعلم.

غير أن هذا المجد الذي أحاط بالمعلّم بدأ في العقود الأخيرة يتراجع تدريجيًا في كثير من المجتمعات، بما فيها المجتمعات العربية. فقد تضافرت عدة عوامل لتقويض صورته في الوعي العام، بعضها مؤسساتي، وبعضها ثقافي أو إعلامي، وبعضها اقتصادي.

فعلى المستوى المؤسساتي، أدت سياسات التعليم المركزية والبيروقراطية في كثير من الدول إلى تقييد دور المعلم، وتحويله أحيانًا إلى منفّذ صامت لمناهج جامدة، بدل أن يكون فاعلًا تربويًا حرًّا قادرًا على الإبداع. وفي الجانب الثقافي، شهدت القيم الاجتماعية تحولات جعلت مكانة القدوة التقليدية – ومنها المعلم – تتراجع أمام رموز الشهرة السريعة والإعلام الجماهيري خصوصا مع انتشار استعمال مواقع التواصل الاجتماعي، مما أضعف جاذبية صورة المعلم لدى الأجيال الجديدة. أما في الإعلام، فقد أسهمت بعض الخطابات التبسيطية أو الساخرة في تشويه صورة المعلم أو تقزيم دوره، بدل إبراز مكانته المحورية.

ولا يمكن إغفال البُعد الاقتصادي؛ ففي بعض البلدان، تدهورت الظروف المعيشية للمعلمين، مما أثّر على جاذبية المهنة واستقرارها. إذ كيف يُطلب من المعلم أن يكون حامل مشعل النهضة، بينما يعيش ظروفًا لا تليق بحجم رسالته ومسؤوليته؟

 ومنه يمكننا القول أنّ إعادة الاعتبار للمعلم هي ضرورة استراتيجية لأي مشروع تنموي مستقبلي. فهو صانع إنسان المستقبل. وإن الاستثمار فيه تكوينًا، وتأهيلًا، وتحفيزًا، وتمكينًا من دوره التربوي والفكري، هو استثمار في الإنسان ذاته. ويقتضي ذلك مقاربة شمولية تشمل:

– تحسين التكوين الأولي والمستمر للمعلمين بما يواكب التحولات المعرفية والتكنولوجية.

– تعزيز مكانتهم الاجتماعية والإعلامية من خلال إبراز قصص نجاحهم ونماذجهم الملهمة.

– تمكينهم من الاستقلالية التربوية وإشراكهم الفعلي في صناعة القرار التعليمي.

– تحسين ظروفهم المادية والمعيشية بما ينسجم مع حجم الرسالة التي يحملونها.

فإنّ كل إصلاح تربوي حقيقي يجب أن يبدأ من الاعتراف بالمعلم فاعلًا مركزيًا. فالمدرسة بلا معلم صاحب رسالة، كالسفينة بلا رُبّان، تائهة في أمواج التغيير.

وفي ختام هذا المقال، لا يسعنا إلا أن نُوجّه تحية إجلال وتقدير لكل المعلمين والمعلمات في الميدان، أولئك الذين يزرعون بذور النور في عقول الأجيال رغم كل التحديات والصعاب التي تعترضهم في تأذية رسالتهم النبيلة. أنتم منارات البلاد التي لن ينطفئ نورها، وجذور النهضات القادمة. فقد تُهمَّش الأضواء عنكم اليوم، لكنّ التاريخ لن ينسى من أشعل شمعةً في ظلمات الجهل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى